منذ تظاهرات 2011، استحوذت ثنائية الحكم العسكري والحكم الإسلامي على الساحة السياسية المصرية، ومثَّلت كابوساً حياً بالنسبة لمصريين مختلفين في أوقاتٍ مختلفة. لكن حتى في أسوأ الكوابيس، لا أحد كان بإمكانه أنَّ يتخيل المزيج البغيض من القمع الممنهج، والفشل الأمني، والركود الاقتصادي الذي حلَّ بعد ذلك، بحسب ما كتب الصحفي المصري عمرو خليفة في مقاله بموقع البريطاني. ويؤكد عمرو أن كثيراً من المصريين يعترفون علناً بشعورهم بالانكسار، وأن الكثير من المحللين يشيرون إلى أن المصريين متعبون، وأن الثورة تبدو حلماً بعيد المنال، بالنظر إلى رد الفعل الخافِت في الشوارع بعد التصديق على اتفاقية تسليم جزيرتي البحر الأحمر إلى السعودية الشهر الماضي. ويضيف أن الكثيرين المفكرين والعامة يؤمنون بأنَّ التظاهرات المتفرقة والأصوات الغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي تتراكم، ويطالبون المصريين بالنزول إلى الشوارع. فكتب المفكر المصري حاتم العسكري منشوراً على فيسبوك يقول: "إنزلوا وماتخافوش.. والله نظام هش وضعيف. الجمعة 30 يونيو 2017 #يسقط_السيسى_الخاين"، وذلك بعد رفع أسعار أسطوانات البوتاجاز المستخدمة في الطهي بنسبة 100%، إلى جانب ارتفاعٍ كبيرٍ في أسعار البنزين والسولار. ليلة الأمس، احتل سائقو السيارات كوبري 6 أكتوبر وسط القاهرة، حاملين لافتات تندد بزيادة أسعار السلع البترولية بنسبة 43%، ما سيُشعل فتيل التضخم لشهورٍ قادمة. وكتب أحد مستخدمي تويتر عن تسليم الجزيرتين: "خلصانة بخيانة ..!!"، بينما قال مستخدم آخر مشهور: "الغليان ده جاهز للانفجار في أي لحظة". يقول عمرو خليفة، وهو صحفي ومُحلِّل مصري مستقل يكتب لعددٍ من الصحف والمواقع مثل ميدل إيست آي والأهرام: "بعد 4 أعوام، صارت مصر برميل بارود جاهزاً للاشتعال. وستزيد حدة الأجواء والمخاطر مع مرور الوقت". "لقد خذل السيسي نفسه وخذل مصر"، هكذا أخبره بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مساء الخميس، 29 يونيو/حزيران، في عشية الذكرى السنوية الرابعة للانقلاب العسكري الذي أطاح بمحمد مرسي من السلطة.كيف تآكلت مكاسب 2011؟ ربما كانت الأوضاع في القاهرة سيئة في عهد مبارك، لكنَّ مصر تشهد عصراً استبدادياً لا مثيل له في عهد السيسي، بحسب ما يقول عمرو في . ويضيف أن الثورة المضادة، التي بدأت فعلياً في التاسع من مارس/آذار 2011 مع أول هجومٍ من قوات الجيش على الثوار في ميدان التحرير، سعت إلى القضاء على مكتسبات حراكٍ شعبي حاول التفتح إلى ثورةٍ حقيقية تغيِّر العقليات وأنظمة الحكم. وبالقفز إلى الأمام بضعة أعوام. رسَّخ السيسي، ودولته الأمنية ونخبة رجال الأعمال، قبضتهم على الحكم، بينما يزيحون كل القوى المنافسة إزاحةً ممنهجة، تضمَّنت اعتقال المرشحين الرئاسيين المحتملين في الأسابيع الماضية. ويوضح الكاتب في مقاله أن السيسي وبطانته فَهِما ما لم يفهمه الثوار: لم تغير الأيام الثمانية عشرة شيئاً سوى الرئيس. لم تكن هذه ثورة، بل انتفاضة. كان التغيير الحقيقي يتطلب التنظيم، والخبرة السياسية، والتماسك الأيديولوجي، إضافةً إلى فهمٍ تاريخي - ولم يتوافر من هذا شيء. لذا، تمكَّنت الثورة المضادة، عن طريق مزيجٍ من القوة الغاشمة والوسائل الدعائية، من خنق الانتفاضة. لكنَّ غرور الجيش المصري وقائده عبد الفتاح السيسي سيتسبب في النهاية في قلب الموازين.كيف تدهورت مصر بعد الانقلاب؟ يذكر الكاتب ثلاثة أسباب منذ الانقلاب، ربما تؤدي إلى تحولٍ مزلزل في مجريات الأمور: نوعية سامة من القومية المغالية، وموجة إرهابية تنتشر من سيناء إلى قلب الدلتا، وأزمة اقتصادية لم تنحسر بعد رغم التعويم القاسي للجنيه المصري. ومع انقسام الشعب بين السيسي وأجهزته الأمنية ومؤيديه من جهة، وبين الإسلاميين والتقدميين والمعارضين غير المسيّسين العاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية مع ارتفاع نسبة التضخم إلى 30%، نجد أنَّ التصدُّعات الخفية تهدد البلد، وربما المنطقة بأسرها. ويقول خليفة: "أضف إلى هذا المزيج القابل للاشتعال تراجع تأييد السيسي في أوساط المسيحيين، الذين استهدفهم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بهجماتٍ متكررة، خاصةً منذ بدء الهجمات في الداخل المصري في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مع الحملة الشرسة ضد منظمات المجتمع المدني، والهيئات القضائية والنشطاء السياسيين الذين اعتقلت السلطات أعداداً كبيرة منهم بسبب الدفع بمصرية الجزيرتين؛ مع نثرة من انقطاعات الكهرباء المزمنة، تجد أنَّ الصورة مظلمة، حرفياً". 3 عوامل لثلاثة انفجارات محتملة يؤكد الكاتب في مقاله أن السيسي في محاولته للقضاء على الحماسة الثورية أشعلها أكثر عن غير قصد. لكن كل هذا ينقصه عامل الانفجار. فقد كان مقتل المصري خالد سعيد في 2010 عاملاً كافياً. وربما يُشعل قرض صندوق النقد الدولي انفجاراتٍ جديدة مع زيادات الأسعار وغياب شبكة أمان اجتماعية تُساعد الملايين على امتصاص الصدمة. وقد يتمثَّل فتيل الانفجار في واقعةٍ من الوقائع الكثيرة التي يُردي فيها ضباط الشرطة الفسدة مصريين أبرياء بدمٍ بارد، كما حدث في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وكما استهان نظام مبارك بالمصريين في 2011، أسكر الغرور السيسي ومعظم أفراد فريقه غير المؤهل، وجعلهم يعتبرون هذه الاحتمالات بعيدة، بحسب "". ويشير الكاتب عمرو خليفة إلى أنه في هذه المرحلة المتقلِّبة تلوح ثلاثة سيناريوهات في الأفق، كلها حبال سياسية بهلوانية بلا شبكة أمان.السيناريو الأول: انقلاب يوضح خليفة أنه ليس كل المنتمين إلى معسكر السيسي نائمين أثناء القيادة. فبعضهم يعرف جيداً أنَّ السيسي في إضراره بالأمن الوطني لا يؤذي فقط عموم المصريين، وإنَّما مصالح نخبة رجال الأعمال المتقاطعة مع مصالح الجيش المتحكم في حصةٍ كبيرة من الاقتصاد المصري. وتماماً كما عمل السيسي في صمتٍ مع بطانته ضد مرسي وجماعة الإخوان، من الممكن جداً أنَّ آخرين يتجهزون الآن للانقضاض على الرئيس السيسي، لأسبابٍ بعيدة عن الإيثار. ويضيف أنه على عكس الثورة سيستهدف هذا الانتقال في السلطة جلب حاكم مستبد مقبول يحل محل ديكتاتورٍ دموي. إلا أن السيسي ليس مرسي. وإحساسه بالارتياب وتحالفاته داخل السلطة قد تؤدي إلى رحيلٍ دموي عن السلطة. وعلى صعوبة هضم هذا السيناريو، يجب أن نتذكَّر أنَّ السيسي أثبت قدرته على إراقة الدماء وارتكاب جرائم الحرب، ومجزرة رابعة تشهد. ويشير إلى أنه ينبغي على من ينكرون وجود صراعاتٍ داخلية في الجيش النظر في تاريخ الجيش المصري، خاصةً محمد نجيب، أول رئيس مصري واجه هذه الصراعات حين حاول التحرك لإبعاد الجيش عن السياسة ودفعه إلى التركيز على الجبهات الأمامية. وبالطبع، تمت الإطاحة بنجيب فعلياً على يد جمال عبدالناصر. السيناريو الثاني: التظاهرات يجادل كثيرٌ ممن يتشكَّكون في إمكانية اندلاع نسخةٍ ثانية من انتفاضة 2011 بأنَّ المعارضة مفككة جداً وأنَّ الشعب مرهقٌ لا يقدر على الوقوف في وجه سلطة وحشية، بحسب ما يقول خليفة في مقاله، بينما تستمر تصفية المعارضة - التي تحمل اسم "جيل المساجين" - وبينما صمتت القوى المعارضة مكتفية بتظاهراتٍ صغيرة بعد تسليم الجزيرتين، فإنَّ أكبر التظاهرات منذ تولي السيسي الحكم كانت في أبريل/نيسان 2016، بعد الإعلان عن صفقة تسليم الجزيرتين. ويتساءل الكاتب: هل يمكن للمعارضة أن تتعافى؟ فقط تذكَّر أنَّ السيسي اشترى أسلحةً تقدر بمليارات الدولارات، في حين ارتفع عدد الفقراء المصريين، مع تركُّز 90% من الثروة في أيدي 10% من المصريين. وقال خليفة إن هناك رموزاً غير المسيّسة، مثل عارضة الأزياء ومذيعة الراديو إنجي سمير، التي قالت لآلافٍ من متابعيها: "احنا مجرد عبيد عندهم ملناش لازمة.. وطبعا #زيادة الأسعار بالشكل ده في الإجازة دي #أمر_واقع.. انزلوا و #اعترضوا بدل ما إنتوا ساكتين". وعندما يأتي الانفجار، سيكون أكثر دموية بكثير من انتفاضة 2011 لسببين: أولهما أنَّ معسكر المعارضة كرَّر أكثر من مرة أنَّ "مغادرة الميدان جاءت مبكرة جداً"، وأنَّه "من السذاجة التفكير في أنَّ مؤسسة الجيش قد تفهم أو تحترم أو تخشى السلمية". وأدَّى سحق الديمقراطية في 2012، مهما كان رأيك في مرسي، إلى القضاء على الأمل في خيار الديمقراطية، وفق . بالمقابل، تدرك وزارة الداخلية وقوات الأمن أنَّ هيبتها قد تلقَّت ضرباتٍ قوية علنية في 2011. وضربة ثانية من شأنها أن تُضر كثيراً بإمبراطورياتها الخاصة. ويقول عمرو إن القمع الصارم للانتفاضة الثانية سيكون خياراً يشجعه السيسي الذي يرى المعارضة خيانة. فيقول حسن من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إنَّه يؤمن بأنَّ الجيش سيتحرك ضد السيسي في حالة اندلاع المظاهرات، وإلا ستسيل "حماماتٍ من الدماء".السيناريو الثالث: مصري ضد مصري يقول خليفة إنَّ عدم القدرة على الاستمرار في الحوار المتحضر بين المعسكرات السياسية المتناحرة سببٌ مركزي، وربما يكون الأخطر، في السيناريو الثالث. ويضيف: "شاهد التلفزيون المصري أو استمع إلى الراديو أو ادخل إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وستجد انقساماً وطنياً حقيقياً". يرفض معسكر السيسي فهم أنَّ المعارضة متنوعة قدر تنوع الشعب المصري نفسه. إذ يدين أولئك المعارضون بعاطفةٍ ولفظٍ شديدين مماثلين معسكر السيسي، بحسب خليفة. وينضح كل معسكر بالمرارة، والازدراء والكراهية لدرجةٍ تمزقت معها أواصر القرابة العائلية. فهناك ملايين ما زالوا على قناعة بأنَّ الجيش سيحميهم من حكم الإسلاميين، وملايين يرفضون السير على إيقاع المدافع في قصر الاتحادية. وعندما لا يعرف الناس الحوار المتحضر أو يحترمونه، فما يكون البديل؟ رغم كونه أبعد الاحتمالات، وأكثرها رعباً، يجعلنا غياب الحوار أقرب إلى حربٍ أهلية مصرية. ويتساءل الكاتب في النهاية: هل من الممكن ألا يحدث أي شيءٍ من هذا؟ وأن يرضخ المصريون ويتجرعون الإخفاقات لعقودٍ قادمة؟ يقول البعض إنَّ هذا حدث بالفعل في أعوام مبارك الثلاثين في الحكم. ويختم مقاله بأنه السيسي مختلف كلياً، وزادت التصدعات إلى حدٍّ يهدد بانفجارٍ يهز أرض المتعبين والجائعين والمقموعين.
مشاركة :