سوق كامدن عبارة عن ستة أسواق تتصل في ما بينها غير أنها لا تتشابه معمارياً، يمشي المرء فيشعر كما لو أنه ينزلق من عصر إلى آخر، من قارة إلى أخرى.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/07/02، العدد: 10679، ص(10)]سوق كامدن محترف الفن اليدوي ومطعم القارات لندن - كان المشهد احتفاليا وعلى شيء من الفكاهة. لبست العروس ثياب العرس البيضاء كاملة. لم تنس شيئا. كانت أوروبية الملامح وقد تكون إنكليزية. أما الرجل فقد كان معمّما على طريقة الهنود السيخ ببدلة سوداء أنيقة. العروس قصيرة ومبتهجة وكأنها تخرج من أحد أفلام الإيطالي فليني أما العريس فقد كان صارم الملامح متجهما كما لو أنه في انتظار حكم لقاض متخفّ يقف في مكان ما، لا يراه أحد. يتبع العروسين اثنان من الهنود. رجل سيخي بعمامته وزوجته التي كانت حريصة على ارتداء الساري الهندي بكامل قيافته وهو ما جعلها تتعثر بين حين وآخر. ما أثار استغرابي أن أحدا في الشارع لم يلتفت إلى ذلك المشهد باستثناء فتاة سائحة انهمكت في تصويره من غير أن يكف الأربعة عن مشيتهم الاستعراضية. “هناك معبد سيخي قريب” قلت لنفسي بعد أن امتلأ جسدي برائحة التوابل. لندن مدينة العالم “أهذه لندن أيضا؟” سألتني زوجتي. قلت لها وأنا أهتزّ طربا “بل هي لندن دائما” لم تصنع الملكة فكتوريا معجزتها حين غزت جيوشها الهند بل صنعتها حين جعلت لندن مدينة مفتوحة أمام الهنود. في كامدن كما في أماكن أخرى من لندن لن تتأخر فكرة عالمية هذه المدينة عن الحضور. إنها الكون الذي يسترسل في هذيانه الذاهب إلى كل الاتجاهات. هذه مدينة قررت أن تفر من مركزيتها لتتشظى من أجل أن تعيد إنتاج العالم مصغرا، لكن بشروط خيالها المعماري. مَن صمم سوق كامدن كان خبيرا بالأمزجة الشرقية قبل أن يكون خبيرا بما يناسب تلك الأمزجة من مبان بريطانية عتيقة. هنا عليك أن تتوقع كل شيء. أن تأكل أي شيء. أن تغمرك الرائحة فتحلق بجناحين يطلان بك على المكسيك وتايلاند وبولندا وجزر هاواي والبرازيل ولبنان والفلبين. لديك من القارات ما يختصر المسافة بينك وبين نفسك وبينك وبين العالم بعد أن تحول إلى مصغرات. “أما كان على العالم أن يكون صغيرا منذ البدء؟” سيقول الرجل السيخي لنفسه في ليلة عرسه. كامدن سوق، غير أنها العالم.شمال لندن هو شرق العالم في بداية القرن العشرين أقيمت سوق صغيرة للمواد الغذائية في طريق إنفرنيس بكامدن تاون. عام 1974 شهد المكان نفسه افتتاح سوق صغيرة لبيع المصنوعات اليدوية ذات الصبغة التقليدية. وهي السوق التي جذبت إليها حرفيي لندن من القادمين من مختلف البلدان. اتسعت تلك الأسواق وتمددت مثل أفعى فأصبحت اليوم عبارة عن ستة أسواق تتصل في ما بينها غير أنها لا تتشابه معمارياً. لكلّ سوق طرازها المعماري. يمشي المرء فيشعر كما لو أنه ينزلق من عصر إلى آخر، من قارة إلى أخرى. حين يعرف موظفو قطار الأنفاق أنك ذاهب إلى سوق كامدن ينصحونك بعدم الهبوط في المحطة القريبة من السوق وهي “كامدن تاون” يقول لك الموظف “اهبط في محطة شالك فارم تفاديا للزحام” يحدث ذلك يوم الأحد. شالك فارم لا تبعد سوى 700 متر عن السوق. قبل الوصول إلى السوق قد تتأفف وتفكر أن الموظف أرهقك بنصيحته غير أنك ما إن تصل السوق حتى تود أن تشكر ذلك الموظف على نصيحته. لقد سبقك إلى هناك مئة ألف زائر في أقل تقدير. الشرق بلغات حالمة كل شيء يوحي بالتمرد. فوضى إنسانية هائلة وإن بدت على شيء من التنظيم. الأرواح التي تحلق في فضاءات الأزقة الجانبية تشير إلى زمن لا يزال غضا وطريا وناعما. لم تمح السياحة أثرا من ظل تركته عصا المايسترو على جدار. هناك كاليغرافي في كل مكان. رسامون هواة مجهولون تركوا صورهم على الجدران الخشنة واختفوا. أحدهم رسم أعضاء فرقة البيتلز وهم يمدون أيديهم إلى تاج ملكة بريطانيا. إليزابيث لا تزال حية. لا يزال بول مكارثي يغني ويعزف ويسافر. لقد ضاع الكثير من الأوهام بين جبال التبت. يستعيد الشرق بهاء أسطورته هنا ويعيد إنتاج حكاياته في فضاء مختلف. شمال لندن هو شرق العالم. هناك القليل من محلات الهدايا التي تذكّر بلندن أما الكثير فإنه ينتمي إلى الواقع الذي نظر إليه البريطانيون أيام الاستعمار بعينين حالمتين. هنا تتمدد بريطانيا العظمى كما لم تفعل على الخرائط. لا شيء من آسيا لم يتم إحضاره وإن بطريقة مبتسرة. طريقة تكتفي بالشكل الذي هو صورة الشيء التي تنسى بيسر ما إن ينشغل المرء بالبحث عن موقع قدميه في تلك المتاهة. فالدروب الضيقة تسلمك إلى دروب أكثر ضيقا، سرعان ما تنكشف بك على مساحات مفتوحة تسلمك هي الأخرى إلى دروب ضيقة لا تذكر بتلك الدروب التي بدأت رحلتك منها.تنوع يأخذ طابعا استعراضيا في سوق كامدن الجمال الذي لا ينفع في تلك السوق يجد المرء كل شيء. غير أنه في الوقت نفسه إن سيطر على نفسه يمكنه أن ينجو بأمواله التي كان من الممكن أن ينفقها في شراء أشياء غير نافعة. ولكن الجميل غير نافع دائما. ما من شيء في تلك السوق لا يمتّ إلى الجمال بصلة. كل ما يعرضه الباعة، الثابتون منهم والمتجولون على حد سواء يشهق بجماله، وهو ما يؤكد عدم نفعيته. حين جلست على مصطبة خشبية تقع في ظل شجرة زرعت في الظل وكان هناك خيط من الشمس يتسلل من خلال شق في السقف الخشبي اقتربت مني حمامة باطمئنان أشعرني بصداقتها. حين نظرت إلى عينيها رأيت جمالا لم أعهده ولم ألتقه من قبل. كان ذلك الجمال هو سر اللامعنى الذي كان يشدني إلى ذلك المكان. هناك قصائد لم تُكتب ورسوم لم تُرسم وجمل موسيقية لم تُؤلف وكاتدرائيات لم تُبن تقيم في تلك النظرة. “أهي لندن حقا؟”، مَن يعرف لندن جيدا لن يفاجئه التنوع الصادم الذي يأخذ طابعا استعراضيا في سوق كامدن. غير أن ما يفاجئ في تلك السوق أنها لا تزال تقيم بطريقة هادئة ورخية في عصر ما قبل الحداثة. كأيّ سوق ضربتها السياحة بهوائها اللاهي يمكنك أن تعثر على الهدايا في سوق كامدن لتؤكد من خلالها أنك زرت لندن. وهو ما يمكن أن تحصل عليه من أيّ سوق أخرى. ما يحدث لك في كامدن أنك يمكن أن تقتنع أن الكشمير قادم من باكستان وأن الحرير هو صيني أصيل وأن خاتما تبيعه فتاة مكسيكية باهرة الجمال هو أثر في إمكانه أن يهبك سحرا مستعارا من حضارة الأزتيك والمايا وأن مسبحة من كرات زجاجية يمكن أن تضم عددا من الأحجار الكريمة وأن أقنعة خشبية جلبت من غانا كان الكهنة في الغابات الأفريقية قد ارتدوها في صراعهم مع قوى الشرّ. أجلس في إحدى الشرفات لأطل على المطاعم الصغيرة التي تقدم الوجبات السريعة. فأشعر كما لو أنني أحلق على جناحين من رائحة زكية، هي مزيج من الأبخرة التي تطلقها التوابل القادمة من كل مكان. كل مكان هنا هو المكان الذي لا يسألك فيه أحد عن هويتك. يضيع المكان ولكن الوقت هو الآخر يختفي. أنت تعيش الماضي كما لو أنك عدت إليه من غير أن تدري. يتسلل السحر إلى الروح من خلال الحواس كلها. على المرء أن يصدق أن ما يراه ليس حلما أسطوريا. أقول لنفسي “إنك تمشي في لندن وهي مدينة أسطورية”.
مشاركة :