الكاتب يقترح صورة مختلفة عن فرنسا وعن مدنها بضواحيها المنقسمة على نفسها، التائهة بين الأثرياء والمهمشين، بين الخاضعين لناموس الجمهورية والخارجين عنه.العرب نجم الدين خلف الله [نُشر في 2017/07/02، العدد: 10679، ص(13)]الكاتب يقدم صورة مختلفة عن مشكلات فرنسا المعاصرة منذ أسابيع قليلة، صدر كتابٌ جديد للصحافي الفرنسي فريدريك بلوكان (1959-) الذي اشتهر باشتغاله على تاريخ الإجرام والانحرافات وغوصه في ملفات الشرطة المستعصية والسرية، ما يزيده تألقًا في ميدان صحافة الاستقصاء. عنوان مؤَلفه لافتٌ “القادة الجُدُد، وَرَثة الوسط (الإجرامي)” (les nouveaux caïds) . وأكثر ما يلفت فيه توظيف كلمة “caïd” بدلالاتِها الحافة السلبية لدى القارئ الفرنسي، كأنَّما يربط لاشعوريا بين العرب والإجرام. عتيدة بجذرها الفصيح، هاجرت كلمة “قائد” من بادية الجزيرة العربية إلى الآفاق، إذ القائد، حسب ما ينقله ابن منظور في لسان العرب هو الذي يقود الإبل ويُسيّرها وهو أمامها، عكس “السائق” الذي يسوقها من خلفٍ. وبعد تطوافٍ، استقرت الكلمة في ولايات شمال أفريقية، إبَّان الحكم العثماني (1705-1922)، وقد أثقِلت بمعانٍ جديدة، ألحِقت بها ضمن سياق الوظائف الإدارية في الإمبراطورية، فالقائد هو الوالي الذي يُسيِّر شؤون المدن الكبرى ويدير أمورها المدنية، والضرائبية وحتى القضائية.. ولكن وَفق هواه ودون أدنى وازعٍ. وإثر احتكاك الفرنسيين بسكان المغرب العربي، بعد انتصاب الحماية فيه، دخلت اللسانَ الفرنسيَّ لتسافر عبره إلى ضواحي المدن الفرنسية الكبرى. وكان إثباتها الرسمي في المعاجم الفرنسية سنة 1935 وقد غدت دالةً على رئيس عصابة، مُنحرفٍ لا يأبه لأيّ قانون، سوى ما يفرضه هو من ضراوة العنف، يتصرف تصرف القادة من ذوي الحكم المطلق في الأحياء. وبرشاقة الملاحظ الخبير خصص هذا الصحافي مقدمة الكتاب لإجلاء حقيقة سوسيولوجية خطرة: شباب الضواحي الفرنسية، وجلهم من أصلٍ مغاربي أو أفريقي، هم الذين ورثوا كِبار الوسط الإجرامي الفرنسي والوجوه التقليدية فيه، وليس لهؤلاء “القادة الجُدد” من همٍّ سوى الارتقاء في سلَّم المهابة الاجتماعية، ضمن نسيج القيم الجمهورية التي لا تمثلهم، ردًّا على وضعية التهميش التي يكابدون: بدءًا من الفشل في مقاعد الدراسة وسوق الشغل، وصولاً إلى أزمة الهوية التي لا تهدأ، ومعضلة الانتماء التي لا تُحلّ. وتتالى الصفحاتُ واصفةً، في أسلوبٍ واقعي أمين، مسار التوارث والانتقال الذي طال صفوفَ العصابات من كونها جماعاتٍ تنحدر من أصولٍ فرنسية، تمارس الإجرام ممزوجا بلطائف من الذكاء والحنكة والنظام، إلى كونهم منحرفين صِغارًا يفسدون في الأرض بحثًا عن الشهرة ولكن دون أدنى هيكلةٍ، و”العقلية العربية” تحكم مساعيهم. فهم يُمارسون العنف ليثأروا من سلطة البوليس، وليثبتوا لهم أنَّ قوتهم تأبى الضيم، ضمن تصارع الهويات، ومادام البقاء للأقوى فقوَّتُهم في التحدي، وهم لا يسرقون من قلةٍ بل لإثبات الذات رمزًا. وتتابع فصول الكتاب التسعةَ عشرَ بورتريهات المنحرفين الجُدد، كما رسموها هم عن أنفسهم من خلال مكالماتهم السرية التي تحصل عليها هذا الصحافي، أو من خلال مقابلاتٍ أجراها مع المجرمين السابقين. وتعقد هذه الفصول، وهي شيِّقة، مقارنات بين المنحرفين القدماء والجدد، بين جيل سابق من المفسدين مارسَ الإجرام بعقلية تمزج الذكاء ببقايا من أخلاق السوق وشرف العصابات، تُذكرنا بمفهوم الفتوة في التاريخ الإسلامي، أو بوجوه “ملحمة الحرافيش” (1977) وقد أبدع في تصويرها نجيب محفوظ، طيلة المرحلة الواقعية. كما تتلاحق خلالها سرديات العنف ومشاهد الفتك وجلّ أبطالها، (مع الأسف) من أبناء الجالية العربية والأفريقية، يَذرعون أحياءَهم القاصية كالقادة من ذوي القهر المطلق، يواصلون الليل بالنهار في تجارة المخدرات والاقتتال والعنف الدموي وعمليات السرقة والسطو، ثم الفرار من السجن تلبيةً لنداءٍ واحدٍ: افتكاك شرعية القوة من خلال امتلاك مفاتيح السلطة: المال والشهرة والإباء. ومن آثار هذا التصوير الذي أتقنه بلوكان أنَّ القارئ قد ينتهي بالتعاطف مع هؤلاء المنحرفين الصغار وقد صُوِّروا وكأنَّهم ضحية للإقصاء والاحتقار، أكثر من كونهم مصدرًا للشر.آخر القادة في الظاهر لا شيء يصل مضمون هذا الكتاب وعوالمه السوداء بالقارئ العربي. وليس الأمر كذلك، فالتأليف، رغم غرابة موضوعاته وعنفها القاتل يمكن أن يهم المتلقي العربي على أكثر من مستوى، وهذه بعض فرضيات للمناقشة والإثراء: من جهة أولى، يثير الكتاب قضية ثقافية خطرة تتصل بحوار الحضارات ومعضلات التعايش بين الفرنسيين “الأصلاء” والمهاجرين وأبنائهم الذين غَدوا مواطنين للأوائل، فهل كان إطلاق مفردة “قائد”، بصورتها السلبية التي يحملها المقابل الفرنسي “caïd” إشارةً ضمنية إلى أنَّ المجرمين هم بالضرورة من أبناء الجالية العربية، الذين أبوْا الانصهار في النسيج الفرنسي وعملوا على فرض قوانين الإغارة والحرب، عوضًا عن قوانين الجمهورية؟ وهل في استخدام الكاتب، استجابةً لتوقعات قرّاء اليمين، إيحاء بأنَّ الشرَّ، في المجتمع الفرنسي مأتاه هذه الفئات المنحدرة من أصول عربية-إسلامية الذين أفسدوا حتى الإجرام؟ ومن جهة ثانية، يتضمن الكتاب، إن قُيِّضَ له النقل إلى العربية عشرات المفردات التي يمكن أن ترفد لغة الضاد المعاصرة بحقول دلالية حديثة، تتصل بالانحراف ظاهرةً اجتماعية وقضائية. وهذا التثاقف المعجمي كفيل باستحداث مصطلحات دقيقة ذات فروق دلالية ضرورية للإحالة على عمليات السطو والاختلاس والنشل وبقية ظواهر المخالفات الجنائية التي استشرت في المجتمعات العربية. وتحتاج تسميتها إلى فضلٍ من الدقةٍ والتفصيل حتى يغدو الفهم المجتمعي والقانوني لها أكثر تاريخية ومتانةً. والأهم من ذلك أنَّ هذا الحقل الدلالي المستحدث قد يقطع مع المعجم التقليدي الموروث عن دواوين الفقه، ولا يزالُ سائدًا ويكفي استعادة “باب الحِرابة” من “بِداية المجتهد ونهاية المقتصد” لفقيه قرطبة وفيلسوفها ابن رشد (1126-1198) لندرك حجم فَقْر الكلمات الدالة على السَّرَق وقطع الطريق، ومدى استمراريتها في التداول المعاصر. ولقد أجاد الكاتب في الفصل الأخير الذي خصصه لأبجدية الإجرام الحديث وجزئياته المنسية، فأحصى فيه عشرات الكلمات أوردها حسب الترتيب الأبجدي يشمل سائر الممارسات والطقوس والعبارات التي تشيع في هذه الأوساط مع إيضاحها بقصص ووقائع تجلي غوامضها وتضعها في سياقات التداول. ومن ثمرات هذا النقل، إن حصل، إغناء الأدب البوليسي عندنا وتطويره عبر إمداده بنسيج ثري من الصور والتمثلات والأكوان الرمزية التي يستدعيها الكتاب، وإن كانت في الأصل واقعية موغلةً في عنفها. يقترح كاتب “القادة الجدد” صورة مختلفة عن فرنسا وعن مدنها بضواحيها المنقسمة على نفسها، التائهة بين الأثرياء والمهمشين، بين الخاضعين لناموس الجمهورية والخارجين عنه، بين قدماء المنحرفين والوارثين لهم. وربما أوحى الصحافي القدير بأنَّ انحراف شباب الأحياء يحمل مرارة التهميش وقلقَ الهوية وجدل الانتماء. وفي إيحائه ذاك إدانةٌ لإقصاءٍ متعمد طالما طال آباءهم القادمين من مدن الضفة الجنوبية، بل وتشكيكٌ في سحر الثقافة الفرنسية وفلسفة أنوارها. كاتب من تونس
مشاركة :