في كتاب أسلافنا العرب: ما تَدين به لغتنا (الفرنسية) لهم روحُ دعابة لطيفة، دعابة تخفي التزامًا سياسيًا بسلاحٍ ثقافي، حارب به الكاتب أسطورة الأسلاف.العرب نجم الدين خلف الله [نُشر في 2017/06/25، العدد: 10674، ص(13)]جون بريفوست: دراسات لغوية طليعية سَفر جديد في أروقة التاريخ ومجاهيل الدوَيْلات البائدة، تمتدُّ مراحله من حقبة ما قبل الميلاد إلى زمن الرقميات، وإيقاع “الراب” في ضواحي باريس المُهمَّشة. والخيط الناظم لهذا الترحال علاقات انعقدت بين لغة موليير ولغة الضاد، خلال منعطفات التاريخ العنيفة أو واحاته الهادئة. في تؤدةٍ، يقود الرحلةَ الألسني الفرنسي جون بريفوست (ديسمبر 1949) يقتفي أثر هذه العلاقات عبر استنطاق متن لغوي ضخمٍ يضم أمهات المعاجم الفرنسية القديمة وكتب التاريخ والأدب والفلسفة باحثًا عن التمثلات والصور التي حاكها المخيال الفرنسي حول مُفردات العربية وما أضفاه عليها من معانٍ ثوانٍ رصدها جميعًا في مظانّ التداخل بين اللسانَيْن على بعدٍ ظاهري بينهما. ففي كتابه الجديد الصادر قبل شهرٍ، بعنوان “أسلافنا العرب: ما تَدين به لغتنا (الفرنسية) لهم”، يُبَيِّن هذا الباحث المخضرم، بالعودة إلى إحصائيات دقيقة وشواهد من النصوص عديدة، أنَّ العربية تأتي في المرتبة الثالثة (بعد اللاتينية والغالية) من حيث إمداد اللسان الفرنسي بالكلمات والمعاني. وانتظم كتابه وفق منزَعَيْن متكاملين أثبت من خلال الأول الكلمات الفرنسية المنحدرة من أصل عربي، حسب تسلسلها الأبجدي، مع عرْض ما لحقها من تحولات صوتية ودلالية أثناء تنقلها في سجلات الكلام وصيغ الثقافات بدءًا من العصور القديمة والوسطى إلى يوم الناس هذا. وقام ثانيا، في رؤيةٍ أكثر أصالةً، بترتيب موضوعي لجلِّ الكلمات المقترضة حيث رصد حضور المفردات العربية في أكثر من عشرين حقلاً دلاليًا مثل الغذاء، الجنس والجسد وما يزيِّنه من حجارة كريمة ويضمِّخه من عطور، وما يحيط به من نباتٍ وحيوانٍ، الطائر منها في الهواء والسابح في الماء، عدا وحدات القيس وألوان المسكن والملبس والحروب ونُظم الأسرة، دون أن ينسى مَجالات الدين وهالات الأساطير، وذلك في مسعى دياكروني (زمني) تطرَّق عبره إلى مسالك وصول المفردات إلى القواميس الفرنسية وما اكتسبته في سفرها ذاك من دلالات تداولية جديدة، وما علق بها من حمولات سلبية أو إيجابية تنشأ في ثنايا الخطاب.في كتابه الجديد الصادر قبل شهر، بعنوان "أسلافنا العرب: ما تدين به لغتنا (الفرنسية) لهم"، يبين هذا الباحث المخضرم، بالعودة إلى إحصائيات دقيقة وشواهد من النصوص عديدة، أن العربية تأتي في المرتبة الثالثة (بعد اللاتينية والغالية) من حيث إمداد اللسان الفرنسي بالكلمات والمعاني وأما منهج الكتاب فمزدوجٌ أيضا، فقد تتالت صفحاته في صرامةٍ فيلولوجية تَتَبَّع على ضوئها أصولَ الكلمات وجذورها البعيدة، وعاين، بدقة ألسنيِّ الصوتيات، ما لحقها من تحويراتٍ فونولوجية وصرفية، نتج غالبها عن صعوبات نطق الحروف كالحاء والظاء والقاف والعين، وكلها تتلاشى أو تقلب في المقابل الفرنسي. وهذا ما فعل الدهر برياضيِّ خوارزمَ وقد انقلب اسمه إلى Algorithme. ويقوم المنهج ثانيًا على مبادئ الحفر الأركيولوجي، بالمعنى الذي صاغه ميشال فوكو (1926-1984)، إذ حلل بريوفست كثيرًا من الكلمات بالتنقيب في طبقات المعنى المتراكبة طيَّ الخطابات، والعودة إلى أجناس قولية متباعدةٍ، مما يجعل من مجموع مباحثه دراسةً لآليات التلقي لدى المتكلم الفرنسي عبر العصور، وقد غدا متكلمًا جامعًا، أضفى على ما يقترضه إما شارات الاستلطاف مثل ما حصل مع كلمة حصان حين صارت Alezan إشارةً إلى أكرم الخيول أصلاً، أو سمات السخرية والازدراء، كما وقع لعبارة “السلام عليكم”، حين صارت Salamalec كنايةً عن الثرثرة وتحيات النفاق. وهكذا رسم الكاتب تاريخ الثقافة الفرنسية بأكمله، عبر متابعة ما أحاط بالكلمات العربية المستعارة من سياقات تداولية جديدة لا توجد في الأصل العربي، وفيها تتراءى تحولات المجتمع الفرنسي، ذوقه الفني وقيمه الأخلاقية وحتى أفكاره السياسية والاقتصادية. على أنَّ أصالة هذا التأليف لا تكمن فحسب في إحصاء الكلمات المقترضة وعرضها حسب ترتيبٍ ما، فقد سبقه إلى ذلك العلامة الهولندي دوزي (1820-1883) في معجمه الضخم “مسرد الكلمات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية” (1869)، ومن معاصرينا صالح قمريش (1946-..) في “قاموس الكلمات العربية من أصل عربي”، (2007) بتصدير آسيا جبار الأكاديمية الفرنسية، وغيرهم كثير. ولكن تكمن فرادة الكتاب في عرض الترابطات بين الكلم والتمثلات التي أنتجتها حولها المُخيَّلة، أكانت شعبية أم عالِمة. لذلك أكَّد المعجمي الفرنسي أنَّه “اختار أنْ يَجمعَ، بأمانةٍ، كلَّ التمثلات التي تنشئها المعاجم الفرنسية عن اللغة العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ تكشف المعاجم بجلاءٍ التراث الذي تنتمي إليه جماعةٌ مًا، في زمنٍ مًا”. (ص 75). وتكمن أصالة هذه المباحث أيضا في الفصل دراسة غير مسبوقةٍ لمسالك العبور التي اتخذتها جدلية الاقتراض، أكانَ وليدَ الحاجة أم ترفًا فكريا، فأثبت الكاتب تداخل معابر ستةٍ، عَبَّدتها تحولات التاريخ وتحالفات السياسة وسلكتها الكلمات العربية قبل أن تستقرَّ، في نهاية مطافها، (ومطافُها حقيقة لا مَجاز) في المتن الفرنسي، حتى انطوت فيه كأنَّها منه. يقترن المسلك الأول بالحروب ولا سيما تلك التي اكتست طابعًا دينيا، مثل الفتوحات الإسلامية التي نقلت إلى العالم حقولاً دلالية جديدة، وثيقة الصلة بالدين. أصالة أسلافنا العرب وكذلك النزاع الصليبي الذي أطلق بين جيوش المسلمين ومقاتلي الفرنجة، ليس فقط صراعًا مسلحًا بل حوارًا ثقافيا، كأرقى ما يكون التحاور بين الحضارات، وكُتب الرحَّالة العرب -وابن جبير على رأسهم- شاهدةٌ على ثراء ذلك التلاقي وآثاره اللغوية. ويتصل ثالث المسالك بالتبادل التجاري، يجريه رواد طريق الحرير، حاملين التوابل والعطور، ومعها تسمياتهم للعالم وأشيائه. ولعبت كبريات العواصم الثقافية، كقُرطبة، وما شُيِّد في أحيائها من مكتبات، دورًا مركزيا في الاقتراض حين أتاحت ترجمة مئات المخطوطات إلى اللاتينية، فهضمها فلاسفة العصور الوسطى وقدموها كنوزَ فكرٍ لعصر الأنوار. وكانت مرحلة الاستعمار بغيضةً في فظاعاتها، لكن حميدةَ الأثر في نشر كلمات العربية طيلة القرن التاسع عشر. وتواصلت دورة التلاقي بفضل الهجرة واستقرار أجيالٍ من المسلمين في سائر المدن الفرنسية وإليها جلبوا ثقافتهم وكلماتها. في الكتاب روحُ دعابة لطيفة، دعابة تخفي التزامًا سياسيًا بسلاحٍ ثقافي، حارب به الكاتب أسطورة الأسلاف الغاليين (سكان بلاد الغال، وهي فرنسا القديمة) وبيَّن أنَّ مقولة “أسلافنا الغاليّون” قد انتزعت من سياقها وبقيتها “لا يحب بعضهم البعض، لأنهم مؤلفون من قبائل شتى”. وتخلَّص بعد ذلك إلى الحديث عن عراقة التبادل مع العرب، وتضرب جذوره في بدايات المسيحية، في قرنها الثاني. وفي الكتاب نبرة تقدير وتعاطف مع الشعب العربي الذي أمد الغاليين بعدة مفاهيم ومعانٍ، في غمزٍ من قناة الأيديولوجية اليمينية المتطرفة التي تحصر الهوية الفرنسية في الأصل الغالي القُح، وتنفي اغتناءه بالروافد الأخرى، والعربية أهمها. وبرهن أنَّ الفرنسية ستعجز عن الإحالة إلى أشياء الحياة اليومية، مثل القهوة والسكر والقطن، وإلى مفاهيم الفكر المجرد، إن لم تلجأ إلى الكلمات العربية. وخلاصته، يسوقها في ظَرفٍ، أنَّ كلَّ الفرنسيين يتكلمون العربية دون أن يَدروا. ولد جون بريفوست في ديسمبر 1949 وهو من سلالة المعجميين الموسوعيين بتآليفه التي تناهز الأربعمئة، ما بين كتاب ومقالٍ وتوطئة، يُدَرِّس مادة المعجمية في جامعة بنتواز (شمال شرقي باريس) ولم ينقطع عن البحث في تاريخ المفردات الفرنسية في تعالقها مع سائر لغات العالم. ينظم منذ سنة 1993 “يومَ المعاجم العالمي” وفيه يلتقي مئات المعجميين من أصقاع الأرض، ليتطارحوا قضايا المعجمية. يقدم عددا من البرامج التلفزيونية والإذاعية حول تاريخ الكلمات ودلالاتها. وتحصل بسبب نشاطه الدؤوب على العديد من الجوائز والأوسمة. كاتب من تونس
مشاركة :