في شهر يناير عام 2012 خرج كتابي الأول الذي كان أطروحتي للماجستير للنور بعنوان: "خرافة الأدب الصهيوني التقدمي" عن دار الهداية، وهو الذي حصل على جائزة ساويرس في النقد الأدبي فيما بعد عام 2014، وخرجت منه طبعة ثانية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في العام نفسه. وحين خرج كتابي الأول للنور كنت حريصا للغاية على أن أضع قائمة بأسماء مجموعة من أبرز الكتاب المتخصصين في الصراع العربي الصهيوني لأهديهم الكتاب وأستطلع رأيهم حول طرحي متطلعا لاستكمال ما ينقصه وتطوير خطابي الخاص في المسألة من خلال النقد والملاحظات التي ستوجه لي. من بينهم كانت أسماء الأساتذة: (سيد ياسين – عبدالقادر ياسين – أحمد بهاء شعبان – عبدالعال الباقوري – د. عماد جاد – وغيرهم)، ومن أهم النقاشات التي دارت في حينه بيني وبينهم، ما دار بيني وبين عبدالقادر ياسين المؤرخ والكاتب الفلسطيني المعروف، والراحل سيد ياسين (المدير الأسبق لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية) رغم الاختلاف في وجهات النظر الذى لم يفسد للود قضية معهما. قدم سيد ياسين دراسة مهمة جدا في مجال التدافع الحضاري بين العرب والصهيونية وهي: "الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر"، وفي الحقيقة كان استقباله لطرحي يحمل دهشة وتعجبا لم يحاول إخفاءهما مشيرا إلى جرأتي فى التناول والطرح والمواجهة، وكثيرا ما أخبرني بذلك، وكان حريصا على يسألني عن إنتاجي الجديد في المسألة ويطلب زيارتي له في المركز من حين لآخر، وإذا تأخرت كان يتصل هو ليعرف ما أعمل عليه، وحظيت بمقدمة منه لأطروحتي للدكتوراة بعد نقاش وجدال ممتد – كالعادة- حولها: "نبوءة خراب الصهيونية"، واختبارات متتالية منه ليعرف ثباتي المعرفي والفكري ومدي وقوفي على ما أقوله وقدرتي على تفسيره والدفاع عنه. إلى أن أخبرته مرة أنني عثرت على كتاب مجهول لسارتر يتناول المسألة اليهودية ويكشف موقفا غريبا لفيلسوف الحرية والوجودية! من هنا دارت بيني وبينه واحدة من أروع النقاشات والسجالات الممتدة والعميقة في حياتي، والتي أكسبتني ثقة وإرادة صلبة وجعلتني أضع في دراستي الرد على كل ما دار بيننا من سجال واختلاف طويل في وجهات النظر (وهو الأمر نفسه الذي قمت به مع مجموعة من المتخصصين في الصراع والفلسفة لأقدم دراسة قوية متنية تقف على رأي خصومها وتحترمه، لكنها تقدم المنطق الخاص بها وتبرز حجتها القوية). تناقشنا في السياق التاريخي لزيارة سارتر للمنطقة العربية، ومسئولية المثقفين من مريديه وغيرهم عن غياب الكتاب وعدم ترجمته حتي يومها خوفا من تأثير موقفه من القضية الفلسطينية على مكانته الذائعة بينهم. وتناقشنا كذلك في موقفه من العرب والفلسطينيين الذي أُهمل في ظل ذلك الافتتان أيضا بحالة التمرد والعصيان الفردي وغواية الأدب الوجودي التي ضربت المثقفين العرب منذ الستينيات. وتناقشنا في موقفه من الصهيونية ما بين السياق الغربي الذى كشفته أنا ككل، ومحاولة ياسين البحث عن التفسير الذاتي من خلال علاقة سارتر بالمحيطين به من اليهود.. الخ. ولكن كانت نقطة الجدال الرئيسية بيني وبينه هي العلاقة بين النظرية والتطبيق؛ فلقد وضعتُ مقاربة سارتر للمسألة اليهودية داخل السياق العام للحالة الأوروبية وتجربة سارتر ككل، وبحثت عن السياق التاريخي المؤسس لوجهة النظر تلك، وعلاقة ذلك بعقدة الذنب تجاه طرد اليهود من بلدان أوروبا المسيحية في العصور الوسطي، واستمرار العقدة مع أزمة الحداثة وفكرة التفوق العرقي والإنسان السوبر التي دفعت بهتلر لتطوير رؤية خاصة به للتخلص من بعض الفئات والأعراق (بنسب متفاوتة) منها اليهود، كما أنني وضعت فكرة "الذاتية" و"الانطباعية" و"المنهج الظاهري" (في مقابل المنهج الجوهري) على المحك! من خلال معايير الفلسفة الوجودية ذاتها. فسارتر كان رد فعل مباشر و"آني" لأزمته الذاتية وشعوره بالذنب تجاه يهود فرنسا وممارسات النازية الألمانية تجاههم، بما جعله ينتصر لهم على حساب الحق الوجودي لجماعة إنسانية أخرى وهم الفلسطينيون، ولم يستطع تبرير هذه الازدواجية حتي مماته، كل ما فعله محاولة التوفيق بين وجود عربي ووجود يهودي في فلسطين، ولكن تحت هيمنة وجودية محسومة مسبقا ومعلنة لليهود والصهيونية دون مبرر فلسفي، سوى فكرة رد الفعل والذاتية والشعور بالذنب لما جرى لليهود في أوروبا، وتقريره أن من يرفض الصهيونية وتوطين يهود أوروبا في فلسطين هو نازي عنصري مشارك في امتداد الاضطهاد الأوروبي المسيحي والحداثي ليهودها! كما نقدت انطباعية سارتر و"المنهج الظاهري" المرتبط بالفلسفة الوجودية الذاتية والتقدير الفردي للأمور والآني الذي ينظر للأشياء من حيث هي قائمة وموجودة وليس من حيث تاريخها وجوهر وجودها القديم والتاريخي الموروث.. فالمنهج الذي اعتمد عليه سارتر في بناء موقفه وطرحه من المسألة اليهودية وجوديا ظاهريا محضا، قام على دراسة حالة واستطلاع لمجموعة من آراء أهل أوروبا اليهود وغير اليهود في ذلك الوقت، ثم تحليل سارتر وقراءته لتلك الآراء! الأطروحة كلها قامت على الانطباعية والمنهج الظاهري الذي يقارب الأشياء من حيث هي قائمة وآنية وموجودة، فلم يقدم سارتر قراءة تاريخية جوهرية واقعية للوجود اليهودي عبر التاريخ، إنما اعتبر أن ما خرج به من دراسته هو أزمة صورة نمطية موروثة لليهود عند الأوروبيين، تدفع اليهود دفعا لأن يتصرفوا وفق سمات تلك الصورة النمطيةّ! معتبرا أن الوجود اليهودي هو عبارة عن وجود سلبي رد فعل للعالم الذي يفرض عليهم ذلك. وقدمت أنا ردا على هذه النقطة من خلال مفهوم "الشعب الترانسندنتالي" (المتعالي) الذي يدفع الآخرين للتعالي المضاد بدورهم، متحدثا عن سمات ما يمكن تسميتها بـ "القومية الثقافية اليهودية" ودور الاختيارات الذاتية القائمة على محددات الهوية التي شكلت محور الوجود اليهودي عبر التاريخ. كان سيد ياسين، يري في وجاهة الفصل بين النظرية والتطبيق، أي الفصل بين فلسفة سارتر الوجودية وكتبه وأطروحاته، وبين مواقفه السياسية التطبيقية كموقفه من الصهيونية وفلسطين مثلا، وقدم في ذلك وجهة نظره، لكنني ببنيتي المعرفية الاجتماعية أصريت على طرحي ومنهجي الذى أستخدمه في معظم دراساتي من حيث وضع الظاهرة في علاقة مع سياقها التاريخي وبحث الروابط والوشائج بينهما، واستكشاف أفق التأثير والتأثر، لأصل لنقطة بناء نموذج معرفي كلي، يرصد منطق الظاهرة وأصلها ومحدداتها، والروافد والأنساق المشكلة لها خفية وعلانية. الراحل سيد ياسين، كان قويا في الخصومة والجدال الفكري لا يتراجع، وقد يتفهم كثيرا وجهة نظر الطرف الآخر، لكنه يظل يشاكسه طويلا ليتأكد من مدى وقوفه على ما يقول وثقته ويقينه من اختياراته المعرفية فيما يطرح، إنما كان دائما وأبدا بشوشا مرحا في استقباله الإنساني.. وظل كل منا على وجهة نظره واختياراته. د. حاتم الجوهري شاعر ومترجم وناقد أكاديمي free3ever@hotmail.com
مشاركة :