قصائد وديع سعادة سيرته شعراً

  • 6/19/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قرأتُ شعر وديع سعادة برمّته، منذ توزيعه كتيّبَه الأول في شارع الحمراء، في العام 1972 على ما أعتقد، حتى آخر أعماله الحديثة. كنتُ في سنتي الجامعية الأولى عندما رأيتُه يقف بين الـ"هورس شو" والـ"رد شو"، حاملاً بجسده القروي، حزمةً من النسخ تحمل عنوان "ليس للمساء أخوة". صورته تلك، لم تبارح مخيلتي، وهي هي لم تتغيّر. إنها صورة المساء الذي ليس له أخوة، بل صورة الشاعر الذي يكتب الشعر، بالموهبة المكتملة التي تمنح نفسها بتألّقٍ يوازي تألّق النبع عند الفجر أو في الهزيع الأخير من الليل. أقول النبع، وأنا أعني ما أقول. ومثلما أعرف أن النبع يحتاج إلى أعمارٍ قبل أن يولد، أعرف في الآن نفسه أن شعرية وديع سعادة كان لا بدّ لها من أن تنتظر أعماراً قبل أن تعثر على قوامها لتحيا عمرها الخاص داخل هذا القوام. هذا أبلغ اعتراف يمكن أن يعطى لموهبة شاعر. وأنا يسعدني أن أمنح موهبة وديع سعادة علناً، مثل هذا الاعتراف المستحق. حتى لأجدني أقول: ليس لشاعر من طينة وديع سعادة، أن يجتهد، أن يختبر، أن يبحث عن شكل، أو معنى، خارج وديع سعادة نفسه. اجتهاداتُه، اختباراتُه، أبحاثُه الأسلوبية الشكلية، معانيه، وأسرارُه، كلُّها موجودةٌ فيه. وكذلك لغتُه. ولكنْ، مهلاً. لمَن يتوهم أن المسألة الشعرية تصبح سهلة المتناول عندما تكون على هذه السوية، أقول إنه مخطئ. لا أصعبَ من مخاض النبع قبل أن يولد ويخرج إلى النور. لا أندر من الموهبة التي تُعطى مكتملةً. أعمارٌ، وأحلامٌ، وتخييلاتٌ، وصورٌ، وهلوساتٌ، وآلامٌ، وتراكماتٌ، وخيباتٌ، ومراراتٌ، تتلوّى كلّها في ليل الباطن، وتتخالط، وتتخمّر، قبل أن تنضج، وتعثر كينونتُها على درب عبورها إلى فم الأرض. قرأتُ شاعراً من هذا النوع، قبل وديع سعادة، لكن من دون أن يشبهه في الكتابة الشعرية. هل تعرفون محمد الماغوط؟ هل تعرفون شعره؟ أكاد أقول إن الرجلين شقيقان، لولا أن كينونة القصيدة عند الماغوط قد أبصرت النور وهي لا تزال في بعض مخاضها، وبقيت فيه، في حين أن قصيدة وديع سعادة قد أكملت مخاضها قبل أن تولد، على صورة ما هي عليه، في لغتها، وفي بنيتها المتماسكة، وفي فضائها المفتوح على التخييل. هذه شعريةٌ جديرةٌ بالحياة. لأنها شعريةٌ مستحَقّة. أسمّيها شعرية النبع. على أن النبع جوهريّ. بمعنى أنه يمنح الجوهر، ولا يأتي مدجَّجاً بسوى هذا الجوهر، وإنْ علِق فيه ما ليس من طبعه. كلّ ما يترافق مع مسيرته، يندمج فيه. والحال هذه، فإن شعريته الدلالية، هي أيضاً، جوهرية. ثمّ إن النبع بديهيٌّ بسيطٌ. شعريتُه، هي أيضاً، بديهية، وبسيطة. ثمّ إن النبع إذ يتجدّد، فإنه هو نفسه الذي يتجدّد، مرتدياً ماءه الذي كأنه لم يكن من قبل. تكرارٌ كأنه لا يتكرّر. لكنه في الواقع يتكرّر. ثمّ إن النبع ينبع من ذاته. وهو الوحيدُ برهانُها، والدليلُ إليها. لذا هو حبيبها، ولا بدّ تاركُها في الآن نفسه. كما الحبيب عندما يتوقف قلبُه عن الخفق، أو يضجر، أو يُقفِر، فيقال: خائن. وهو يخون، لا لسببٍ في ذاته، ولا لجحودٍ، أو لنضبٍ، بالضرورة. فقد تتعدّد الأسباب، لكن النتيجة أنْ لا بدّ مما لا بدّ منه أحياناً. فإذا كان من أقدار النبع، في أحد الأيام، أن ينشف، فهذا مندرجٌ في جوهره وطبعه. وهو شرفٌ له. قلْ نبعكَ، وامشِ. هذا قَدَرُكَ أيها الشاعر. وهو موهبتُكَ القصوى. والنبع لا يروي سيرة أحد. النبعُ سيرةُ ذاتهِ فحسب. هو الطريق منها إليها، باللغة. كُتُب وديع سعادة هي سيرتُه شعراً. لذا أقول: ليس من شعرٍ في تجربة وديع سعادة، خارج وديع سعادة نفسه. لقارئ هذا الشعر، أن لا يخطئ المرمى. الطريق هذا هو. لكنه خدّاع. وموهِم. ذلك أننا لن نحصل على نبذة وديع سعادة بعد القراءة. بل على نبذة الشاعر الشعرية. وهذا هو المهم. المسافة من وديع سعادة الشخص إلى وديع سعادة الشاعر، هي مسافةٌ باللغة الشعرية فحسب. الفارق بين الإثنين يتجسّر بالشعر. هذا التجسير هو خلاصة الشعرية. اقرأوه. اقرأوا شعر وديع سعادة. لكن احذروه في الآن نفسه، لأنه مليء بالفخاخ. ظاهرُهُ نثريٌّ، سِيَرِيٌّ، حكواتيٌّ، سلسٌ، ليّنٌ، قريبٌ، متواضعٌ، خفِرٌ، أليمٌ، مريرٌ، أسود، ساخرٌ، صارخٌ، يائسٌ، باسطٌ معناه على حريرٍ سرديّ، لكن باطنه محرَّرٌ من النثر. إنه النثر الذي هو شعرٌ خالص. وإذا من وصفٍ يقارب قصيدة النثر، فأرجو أن تمنحوها هذا الوصف. هذه المقاربة. وديع سعادة الحاضر بيننا، في هذا اللقاء، لو كان موجوداً في الحياة الشعرية خلال زمن الروّاد وستينات مجلة "شعر"، أما كان ليُعتَبر رائداً من رواد الحداثة الشعرية، وعلماً من أعلامها، وأيقونةً من أيقوناتها؟ بالطبع، نعم. بل نعم، قوية. وعليه، يهمّني جداً أن أعترف بكَ، يا وديع سعادة، شاعراً كبيراً. رائداً مع الروّاد، ورائداً بعدَهم. أيها الشاعر، مَن مثلُكَ، لا يحتاج إلى اعترافي. آداب وفنون

مشاركة :