نشرت وكالة «بلومبيرغ» قبل أسبوعين تقريراً تحت عنوان «منتجو النفط الصخري في أميركا يحفرون حفرتهم بيدهم»... وفي يوم 30 يونيو (حزيران) الماضي كتب محلل السوق في «رويترز» جون كيمب مقالاً يحمل تقريباً العنوان نفسه. وتعيد هذه العناوين إلى الأذهان المثل العربي «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، إلا أن هذه الحفر قد تتحول إلى قبور مع الوقت.إذ يبدو واضحاً أن هناك شبه إجماع في الصناعة على أن الزيادة في الحفر في الولايات المتحدة أكثر من اللازم، وأن الحفارات التي تحفر بحثا عن النفط تدريجياً ستحفر قبور للشركات التي تحفر هناك؛ لأن الأسعار ستتجه للهبوط مع كل زيادة في الحفارات لتهبط، إلى تحت 40 دولارا، وهذا حد لا يحقق لها أي ربحية ولا يسمح لها بمواصلة الحفر.من الصعب تصور حدوث هذا السيناريو المأساوي؛ لأن الهدف من الاتفاق المنعقد بين أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) ومنتجين آخرين من خارج المنظمة - تقودهم روسيا - العام الماضي على خفض الإنتاج 1.8 مليون برميل يوميا لتقليص تخمة مخزونات الخام ودعم الأسعار؛ وإن كان بعض وزراء «أوبك» يقولون دائماً إن الأسعار ليست هدفاً من الاتفاق.وبافتراض أن الأسعار هبطت تحت مستوى 40 دولاراً وظلت هكذا لفترة طويلة فماذا سيحدث؟ سيخرج جزء كبير من الحفارات من السوق، وتعود الأسعار للصعود مجدداً؛ ومن ثم يعود كل هؤلاء مجدداً للإنتاج كما عادوا منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي تدريجياً عندما عقدت «أوبك» اتفاقها وزادوا الحفارات بنحو الضعف، لتصل حتى الأسبوع الماضي إلى 745 حفارة تنقب عن النفط فقط.* على من يقع اللوم؟من السهل جداً إلقاء اللوم على منتجو النفط الصخري باعتبارهم أحد عوامل اضطراب السوق النفطية، وبخاصة أن الإنتاج الأميركي وصل إلى 9.08 مليون برميل يومياً في أبريل (نيسان) الماضي، رغم انخفاض قليل في الإنتاج من الحقول البحرية في خليج المكسيك، في الوقت الذي تواصل فيه النمو من الحقول البرية، وبخاصة في حوض البريميان، أحد أكبر الأحواض الجيولوجية المنتجة للنفط الصخري.لكن في حقيقة الأمر، أن مسألة «حفر الحفرة» أصبحت مشتركة بين الجميع في السوق. فمنذ نوفمبر عام 2014 وحتى سبتمبر (أيلول) 2016، و«أوبك» تحفر حفرا للمنتجين من خارجها، الذين يأتي من بينهم منتجو النفط الصخري، إضافة إلى منتجي النفط الثقيل الكندي... وأولئك الذين يحفرون في المياه العميقة في كل مكان.وتركت «أوبك» الأسعار تهبط إلى حد يخرج الجميع من المنافسة وتبقى السوق حكراً على المنتجين الأقوياء الفاعلين. وبالطبع، حاول المنتجون في أميركا الشمالية إثبات قوتهم أمام «أوبك»، واستخدم هؤلاء كل الحيل الفنية والإنتاجية من تخفيض نفقات لحفر آبار غير مكتملة للبقاء في السوق، وارتفع الإنتاج ليصل إلى ذروته في مارس (آذار) 2015 عند 9.627 مليون برميل يومياً، بحسب أرقام إدارة معلومات الطاقة الأميركية، ثم عاد الإنتاج ليهبط بعد ذلك حتى وصل إلى 8.567 مليون برميل يومياً في سبتمبر.ورغم أن الشركات المنتجة هناك خاصة، فإنها تتلقى دعماً سياسيا من الحكومة سواء السابقة تحت إدارة باراك أوباما، أو الحالية تحت إدارة دونالد ترمب. وترى الحكومة الأميركية، أن هذه الشركات هي «أمل أميركا» من أجل تحقيق حلمها بالاستقلال عن «أوبك».وبالنسبة لمصارف «وول ستريت»، فإن هذه الشركات كانت بمثابة «خيل رهان» عندما كانت أسعار النفط 100 دولار؛ ولهذا دعمتها وأقرضتها حتى الثمالة. كل هذه العوامل الفنية والسياسية والمالية جعلت النفط الصخري مرناً ومستعصياً مقارنة بالمنتجين الآخرين التقليدين وغير التقليدين.* استراتيجية «أوبك»وبالعودة للمثل العربي، فإن «أوبك» نفسها حفرت للباقين حفرة وقعت فيها، ولم تكن «أوبك» لتقع في الحفرة لولا أنها زادت فيها وأصبحت كبيرة لدرجة ابتلعت دول «أوبك» نفسها، حيث تدهورت الميزانيات لكل المنتجين في العالم وللشركات الدولية؛ وهذا ما جعل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يحاول مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ردم الحفرة وإعادة الاستقرار للسوق.وعادت الشركات النفطية الأميركية الآن إلى التوسع في الحفر، ومن المتوقع أن تحفر المزيد من الحفر ليصل الإنتاج الأميركي في العام المقبل إلى أكثر من 10 ملايين برميل يومياً، بحسب توقعات إدارة معلومات الطاقة الأميركية؛ وهذا الأمر سيجعل من مهمة «أوبك» لموازنة السوق أمراً صعباً، حيث إن أي خفض من جانب «أوبك» سيتم تعويضه من جانب منتجي النفط الصخري.ويرى مصرف «بنك أوف أميركا» في تقرير صادر يوم 28 يونيو، أن النفط الصخري أصبح مرناً جداً مع بقاء النفط في حزمة سعرية بين 45 إلى 55 دولاراً، بمعنى أن كل دولار زيادة أو نقصان في سعر البرميل في هذه الحزمة يزيد الإنتاج أو يخفضه بنسبة 100 ألف برميل يومياً.ولهذا؛ يرى المصرف أن النمو في إنتاج النفط الصخري عند سعر 45 دولارا سيكون بنحو 200 ألف برميل يومياً، ولكنه سيكون عند مستوى 1.1 مليون برميل يومياً عند مستوى 55 دولارا.وبقاء أسعار النفط بين 45 دولارا إلى 50 دولارا مع استمرار نمو الطلب كما هو الحال الآن، واستمرار اتفاق تخفيض إنتاج «أوبك» وخارجها، سيحقق التوازن المطلوب في السوق وسيدفع أسعار النفط إلى وضعية الـ«باكورديشين»، وقد يصل هذا ما بين 3 إلى 7 دولارات؛ وهو ما سيجعل تخزين النفط غير مربح؛ لأن شح الإمدادات على المدى القريب أعلى منها على المدى البعيد.* التحديات للطرفينولكن التحدي الكبير بالنسبة لـ«أوبك» وباقي المنتجين هو المحافظة على هذه الحزمة السعرية والقبول بها، وهذا أمر صعب حالياً لأن الميزانيات مبنية على أسعار أعلى من هذا لكي تتوازن. فعلى سبيل المثال، روسيا ستحتاج إلى سعر تعادل للميزانية ما بين 60 و65 دولارا هذا العام لكي توازن ميزانيتها، وما بين 50 و55 دولاراً في العام المقبل، والأمر ليس بأفضل في «أوبك».ويبقى التحدي لشركات النفط الصخري هو ضبط إنتاجهم بما يتناسب مع الطلب، وليس مع احتياجاتهم المالية فقط؛ لأن غالبية كبريات شركات النفط الصخري لم تحقق أرباحاً في الربع الأول، وحتى الذين حققوا أرباح مثل «كوننتنتال ريسورسز»، فقد حققته على استحياء. في الوقت الذي انتعشت فيه شركات النفط الدولية وحققت أرباحاً كبيرة.وسيكون الوضع أسوأ في الأشهر المقبلة لشركات النفط الصخري، وبخاصة أن استراتيجية التحوط للشركات من خلال بيع إنتاجها للعام المقبل بأسعار أعلى الآن، بدأت في التراجع كما يظهر «بنك أوف أميركا».ولا يوجد حيلة للشركات الأميركية سوى ضبط النفس، كما يقول هارولد هام، رئيس كوننتنتال ريسورسز، وهذه لا تكفي؛ إذ إن الشركات مستمرة في الإنتاج رغم خسائرها في ظل غياب تشريعات صارمة لهم. ولا يوجد حيلة لـ«أوبك» سوى الحفاظ على وحدتها والقبول بأسعار تضبط منتجي النفط الصخري؛ لأن السوق عانت كثيراً من الحفر التي تم حفرها في آخر سنتين من قبل الطرفين.
مشاركة :