مسجد برلين يكسر المحظورات ويستفز التطرف
هل يفترض أن ننتظر التجديد الديني وهتك حجب التقليد من خارج البيئة العربية الإسلامية والحال أن الفضاء العربي الإسلامي هو الأجدر بأن يُقدم على تنقية تراثه وأن يطلق جهدا عارما للخروج من أسر الجمود والانغلاق الفكريين؟ مسجد ابن رشد- غوته في برلين الذي فتح أبوابه من داخل كنيسة في منتصف الشهر الماضي، أثار جدلا كبيرا ومواقف متباينة لكن وصول الرفض إلى درجة التهديد بالقتل يشي بأن التطرف الديني مستعد لنقل أدواته إلى الخارج.العرب [نُشر في 2017/07/06، العدد: 10683، ص(13)]مسجد ليبرالي خلخل السواكن الفكرية
برلين - تعرُّض المحامية سيران أطيش، أبرز مؤسسي مسجد ابن رشد- غوته الليبرالي، لتهديدات بالقتل، واتهامها للحكومة التركية بشكل غير مباشر بالمسؤولية عن توجيه التهديدات، حدث يتجاوز البعد الأمني العادي، بل يعكس رفض المؤسسات والعقليات الدينية لكل تجديد أو خروج عن المعتاد والمألوف.
الجدير بالذكر أنه تم افتتاح المسجد في برلين الألمانية الجمعة 16 يونيو الماضي. مسجد حمل اسم "ابن رشد- غوته" وسعى إلى كسر محرمات عديدة إذ أتاح الصلاة سويا للرجال والنساء بمن فيهن السافرات. كما فتح أبوابه لكل الطوائف والأقليات، ما أدى إلى ردود فعل كثيرة في ألمانيا وخاصة في خارجها.
اسم المسجد يحيل إلى مرجعيتين مختلفتين، مرجعية عربية إسلامية يمثلها ابن رشد رمز التحرر في العالم العربي الإسلامي، ومرجعية يمثلها الشاعر الألماني فولغانع غوته الذي يمثل همزة وصل أساسية بين الشرق والغرب. أهمية المسجد تكمن أيضا في أنه أقيم داخل كنيسة بروتستانتية في برلين، لتأكيد تصور مؤسسيه لإمكانية وجود إسلام منفتح على الديانات الأخرى بل متواصل معها في الفضاء وفي القيم.
وقالت أطيش “حصلت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بعد تأسيس المسجد على عدد كبير من التهديدات بالقتل ما الذي دفع الشرطة الجنائية إلى فرض حمايتي على مدار الساعة”.
ويحظى المسجد في برلين حسب تقرير لصحيفة “فيلت أم زونتاغ”، بحماية شخصية من قبل الشرطة على مدار الساعة. وبسبب تزايد عدد التهديدات أفضى تحليل للوضع الأمني للشرطة الجنائية إلى منح أطيش رقابة مستمرة قلما يحصل عليها حتى بعض الوزراء. وكما أفادت الصحيفة يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوصى بإغلاق المسجد الليبرالي. إلا أن وزارة الخارجية الألمانية أعلنت أنها ليست على دراية بتدخل الحكومة التركية في هذه القضية.أصحاب مبادرة المسجد واعون بأن من يعلن معارضته للسلفيين يضع نفسه في مواجهة مكشوفة ويعرض نفسه للمخاطر
ورفضت الحكومة الألمانية بعبارات حادة انتقادات تركية ومصرية للمسجد الليبرالي الجديد في برلين. وقال المتحدث باسم الخارجية الألمانية مارتن شيفر في 23 يونيو ببرلين إن “المواطنين في ألمانيا متروك لهم كامل الحرية في اختيار كيفية ومكان وزمان وطريقة ممارسة دينهم”، مؤكدا أنه “لن يتم التسامح مع أي اعتداء على الحرية الدينية في ألمانيا”.
أهمية المسجد -على صغره- تنبع من أبعاد كثيرة متضافرة بالإضافة إلى خلفيات الاسم والمكان الذي أقيم فيه. أولا أنه تأسس من قبل مجموعة من المسلمين المقيمين في ألمانيا أي في بيئة غربية تخضع لقوانين علمانية، وثانيا أنه سعى إلى كسر ثوابت ومسلمات اقتربت من المحرمات في الدين الإسلامي، إذ أتاح الصلاة المختلطة وإمامة النساء، فضلا عن كونه لا يأبه للاختلافات الطائفية بين المسلمين، وشرّع أبوابه للسنة والشيعة والعلويين والصوفيين وغيرهم. البعد المهم الآخر تمثل في أن أول صلاة جمعة أقيمت بالمسجد أمَّها إمامان: رجل وامرأة معا ولم ترتد الإمامة خلال تلك الصلاة حجابا مثلما هو متعارف عليه في صلوات المسلمين.
وأكدت صاحبة مبادرة إنشاء أول مسجد ليبرالي بألمانيا سيران أطيش رغبتها في أن يتصدى المسلمون للإرهاب وأن يظهروا الوجه السلمي للإسلام. وتابعت “بدأنا ننشط الآن من أجل الجانب السلمي لإسلامنا لأنه لا يجوز لنا أن نترك هذا الأمر للمحافظين والمتشددين والمتطرفين”. وتسعى أطيش حسب قولها إلى الترويج لإسلام معتدل وكسر صورة العنف والتطرف التي ألصقها المتطرفون بهذا الدين.
صلاة الجمعة الأولى في المسجد أمّها كل من عبدالحكيم أورغي المتخصص في العلوم الإسلامية وإلهام مانع المتخصصة في العلوم السياسية، وألقت الخطبة سيران أطيش، الناشطة الألمانية من أصل تركي، وكان موضوعها “نكافح من أجل المحبة”. وإلى جانب الصحافيين غصت القاعة بالضيوف اليهود والمسيحيين، وعلى المداخل وقف العديد من رجال الأمن والحماية.
رفض فكرة المسجد وما قدمه من “خروج على المألوف الديني” لم يأت فقط من السلطة التركية، بل صدرت أيضا من دار الإفتاء المصرية، التي أكدت في بيان لها “لا للمساجد الليبرالية… لا تجوز صلاة النساء بجوار الرجال في صف واحد مختلط… لا تجوز الصلاة من دون حجاب لا تجوز إمامة المرأة للرجل في الصلاة”.
وفي السياق نفسه ربطت رئاسة الشؤون الدينية في تركيا (ديانت) المسجد الليبرالي في برلين بحركة الداعية التركي فتح الله غولن، حيث ذكرت "ديانت" في بيان لها أنه "من الواضح أن هذا مشروع للتحول الديني، يجري تنفيذه منذ سنوات تحت رعاية حركة فتح الله غولن ومنظمات أخرى مشؤومة".رفض فكرة المسجد وما قدمه من "خروج على المألوف الديني" لم يأت فقط من السلطة التركية، بل صدرت أيضا من دار الإفتاء المصرية
واضح أن تأسيس المسجد والرفض العارم الذي لاقاه من مؤسسات دينية رسمية وغير رسمية، فضلا عن بلوغ الأمر درجة التهديد بالقتل، يحوّل الأمر إلى قضية دينية وسياسية بالغة التشابك.
أصحاب مبادرة المسجد واعون بأن من يهز التقاليد المرتبطة بالعبادات الإسلامية، ومن يعلن معارضته العقائدية الواضحة للسلفيين يضع نفسه في مواجهة مكشوفة ويعرض نفسه للمخاطر. وتؤكد رئيسة مركز أبحاث فرانكفورت للإسلام العالمي سوزان شروتر على أنه يسمح للنساء في العديد من البلدان الإسلامية بتعليم النساء وإرشادهن وحتى الصلاة معهن، غير أن إمامة امرأة لصلاة الجمعة يمثل “بالنسبة إلى الإسلام الأصولي أمرا محرما على الرغم من أن هذا التحريم غير وارد في القرآن”.
وتفاعلا مع بيان دار الإفتاء المصرية أكدت إدارة المسجد على ضرورة التحول تجاه تحقيق حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين “لا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن الله وحده هو الذي يقبل أو يرفض الصلاة وليس لأي شخص أو مؤسسة الحديث بالنيابة عن ربنا القدير.. كما نودّ بكل أدب أن نلفت انتباه دار الإفتاء إلى أن الرجال والنساء يصلّون جنبا إلى جنب خلال الحج… وهنا تتلامس الأجساد دون قصد بسبب الزحام ولا يوجد من يشكك في صحة الصلاة”.
وفي السياق نفسه شددت سيران أطيش في حوار مع صحيفة ألمانية “نحن لا نقوم بأي عمل غير إسلامي، ولكننا لا نخضع للتقاليد”. وأضافت أن “الفصل بين الجنسين في الصلاة بدعة اخترعها الذكور”. وأكدت “نريد توجيه رسالة ضد الإرهاب الإسلامي واختطاف ديانتنا. نريد أن نمارس ديانتنا معا”. “هؤلاء السلفيون عليهم أن يكفوا عن السعي لسلبي حقي في أن أكون مسلمة”.
وشددت الأكاديمية إلهام مانع، التي استضافها المسجد الليبرالي ابن رشد- غوته لتكون إمامة لصلاة مختلطة بين النساء والرجال، في مقابلة أجرتها مع فضائية دي دبليو عربية الألمانية على أن انتقادات دار الإفتاء المصرية “لا تهمنا كثيرا، هدفنا غير مرتبط فقط بمواجهة الإرهاب، ما نفعله نابع عن قناعة بأن وقت التغيير والإصلاح قد حان، وأنه لا يجب أن نترك الساحة لخطاب ديني متطرف. نحن ننادي بإسلام إنساني وليس أوروبيا، يعني يتجاوز أوروبا بمراحل”.
وأوضحت أن ما تقصده بالإسلام الإنساني هو “الإسلام الذي يحترم الإنسان، ويتقبله كما هو، ويقبل به دون النظر إلى أي اختلافات. وهو ما نؤكد عليه دائما ونسعى إليه. أتمنى بدل الشتائم والمطالبة بالقتل والتهديد، أن تجابه الحجة بالحجة؛ استمع لي، وإن لم تقتنع فهو أيضا أمر مقبول".