على رغم أن عدداً من سفهاء اليمين الأدبي الفرنسي نشروا لدى رحيل الكاتب أناتول فرانس عام 1924 نصّاً لا يزال مستغرَباً حتى اليوم عنوانه «موت جثة»، فإن هذا الكاتب لا يزال يعتبر حتى زمننا هذا، بعد نحو قرن من رحيله، ومن نيله جائزة نوبل الأدبية عام 1921، واحداً من أكثر الكتاب إنسانية في تاريخ الأدب الفرنسي. ولا يزال يعتبر إلى اليوم مرجعاً في كلام الحق وفي الكتابة الجريئة والمواقف التي لا تساوم. والحقيقة أن كتابات كثيرة لفرانس (واسمه الحقيقي فرانسوا أناتول تيبو) كشف دائماً عن الخلفيات الفكرية والعائلية الكامنة وراء تلك السمات الفكرية التأملية والجزالة الأسلوبية التي ميزت أدبه، لا سيما منه شوامخ في الأدب الفرنسي مثل «جزيرة البطارق» و «جريمة سيلفستر بونالا» أو «السيد برجيريه في باريس» أو أخيراً «الآلهة العطشى» التي يميل كثر إلى اعتبارها أهم نصوصه. وإلى هذا نعرف أن أناتول فرانس قد كفى الباحثين عناء التفتيش في ثنايا حياته وسيرته عن تفاصيلها، لا سيما عن تفاصيل بداياته، فنشر خلال السنوات الأخيرة من حياته سلسلة كتب تضم، وإن غالباً بصيغ روائية، ذكريات طفولته وشبابه. ومن أبرز أجزاء تلك السلسلة كتاب «الحياة الوردية» الذي أصدره عام 1922 ليكون واحداً من آخر ما كتب. > والحقيقة أن «الحياة الوردية» – أو «الحياة وسط الزهور» – هذا يأتي ليستكمل كتباً أخرى لأناتول فرانس اشتهرت خلال تلك السنوات ومنها «كتاب صديقي» و «بيار نوزيار» و «بيار الصغير». وهي كلها معاً كتب تضم نتفاً وشذرات من حكايات طفولة ذلك الفتى الذي يسند إليه المؤلف «بطولة» هذه الحكايات مسبغاً عليه اسماً مختلفاً عن اسمه متحدثاً عنه بضمير الغائب. غير أن الكاتب لم يمكنه طبعاً أن يخدع أحداً في هذه الخيارات. بل إن هذا لم يكن مقصده على أي حال. كل ما في الأمر أنه اتساقاً منه مع رغبته في أن يقدم «الحكايات» إلى قارئه في قالب روائي ممتع، اخترع لنفسه ذلك الأنا/الآخر راوياً عنه سابراً أحواله وأفكاره، واصفاً علاقاته بالآخرين وبنفسه، مفسّراً كيف اكتسب بالتدرّج تلك الصفات والسمات والأفكار التي ستجعل منه لاحقاً ذلك الإنسان الكبير والحكيم الذي سيكونه أناتول فرانس نفسه. إذاً، نحن هنا أمام لعبة مرايا طريفة تستكمل ما كان الكاتب بدأه في الكتب المشابهة التي أشرنا إليها قبل قليل. > عندما كتب أناتول فرانس هذا النص، كان قد قارب الثمانين من عمره، لكنه لم يكن ليتخلى عن نظرته الماكرة وسخربته الظريفة وقدرته على الهزء حتى من نفسه طفلاً. من هنا، يبدو النص كله أشبه بانكباب ذلك العجوز الماكر على طفولة بطله وهو يتأمله ويتأملها بمقدار كبير من الحنان الساخر متابعاً ما لا يقل عن ثلاث مراحل متتالية من سيرة ذلك الفتى موصلاً إياه إلى سن النضج وبداية التعاطي مع الحياة بجدية. أي أن الكتاب يتابع بطل فرانس من سن الثالثة عشرة إلى سن الثامنة عشرة. وهذا ما يتيح له أن يحدثنا، ودائماً بأسلوبه «الروائي» الجميل، عن سنوات الدراسة ولكن كذلك عن بدايات التوجهات الأدبية التي لا تبدو لنا على أية حال اختياراً عادياً في مسيرة ذلك الشاب حتى وإن كنا ندرك أنه ينتمي عائلياً إلى ذلك الصنف من البورجوازية المتنورة التي كانت حاملة لواء التقدم في فرنسا بداية القرن العشرين. ومن خلال تلك المتابعة، يرسم لنا أناتول فرانس صورة مدهشة لأول احتكاكات بطله بالعالم وأول غرامياته... ولكن، كل هذا بأسلوب خفر مليء بحيوية لا تخلو من حياء لطيف. > ولعل أطرف وأجمل ما في الكتاب هو صفحاته الأخيرة التي تبدو كأن كاتبها كان يشعر بأنها ستكون آخر ما يكتبه في حياته - حتى وإن كنا نعرف أنه كتب لاحقاً، وظل يكتب حتى أيامه الأخيرة، نصوصاً أخرى قصيرة لم تتخذ على أي حال شكل كتاب متكامل - من هنا، بدا كأنه يقدم في تلك الصفحات نوعاً من خلاصة لمتن أدبي رائع ومتألق كان هو بالتأكيد ما دفع زميله مارسيل بروست إلى استعارة ملامحه ليجعل منه، تحت اسم الكاتب بيرغوت واحداً من شخصيات «البحث عن الزمن الضائع» وبالتحديد الشخصية التي يعزو إليها اكتشاف لوحة فيرمير «منظر في دلفت» في معرض حافل للفن الهولندي بمتحف «جو دي بوم». > المهم أن أناتول فرانس يبدو في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب كأنه أراد أن يكثف تجربته الحياتية والجمالية والفكرية المديدة في عدد من الصور القلمية المتناسقة والدقيقة في سردها العلاقة بين ما هو جواني في حياة المرء وما هو برّانيّ فيها. من هنا، ما يمكن أن نلاحظه من أناقة ورهافة في جمل وعبارات قصيرة يقدم من خلالها الكاتب صوراً لشخصيات كثيرة تبدو ظاهرياً على الأقل، مصوّرة وسط حياة حقيقية من دون أن تمر بمرشح نظرة الكاتب قبل الوصول إلى القارئ. إنها صور أخاذة لشخصيات تبدو كأن الكاتب وضعها هنا على الورق وهو راغب في العودة إليها في نصوص تالية روائية خالصة هذه المرة. كما تبدو متجمعة إلى جانب بعضها بعضاً في انتظار «كولاج» لاحق يعطيها حياة مزدوجة. هكذا، على سبيل المثل، تطالعنا صورة الجدة التي تسعى جهدها إلى ربط بطلنا الفتيّ بالقرن الثامن عشر وذهنياته. ويطالعنا الوالد الذي لا يتوانى لحظة عن محاولة إدخال الابن في ثنايا عالم العلم والثقافة والتقدم تطلعاً إلى مستقبل إنساني مشرق. ولكن، بين هذا السعي لإرجاع الفتى إلى روعة الماضي والجهد لإدخاله إلى المستقبل هناك أم بطلنا الواقعية التي لا تريد له أن يتزحزح عن الحاضر العملي وواقعيته. ولئن كانت هذه التجاذبات الثلاثة تلعب دورها في تكوين بطلنا وإعطائه قدرة على اختيار حرّ، بالنظر إلى أن ما من أحد يجبره على سلوك درب اختيار محدد، فإن ثمة عوامل تجاذب أخرى لا تقل قوة تشتغل عليه مؤثّرة فيه، هناك في هذا المجال، بخاصة عرابه دانكان الذي لا شك يمارس عليه تأثيراً كبيراً، فهو بعد كل شيء ذلك المهندس التقني الكبير المنخرط في العمل على إنشاء سكة حديد بغداد في الشرق الأوسط، ما يجعل منه ابن بورجوازية الأعمال الكبيرة التي صنعت الجمهورية الفرنسية الثالثة، لكنها دمرتها أيضاً من خلال فضائح الفساد. ومن الواضح هنا، أن دانكان هذا هو الممر الذي عبره نعبر في هذا النص إلى السياسة بصورة مباشرة، السياسة التي ستشكل لاحقاً جزءاً أساسياً من اهتمامات أناتول فرانس. بل إن الكاتب يقدم لنا عبر شخصية دانكان، مجموعة من البورتريهات لشبان مهندسين وتقنيين يعملون معه، ويتناحرون معه أيضاً ما يضعنا ويضع البطل على تماسّ مع نوع من صراع أجيال مبكر، يعرف قراء أناتول فرانس أنه سيشكل أحد الموضوعات – المفاتيح في حبكاته. > مع هذا، تبقى الصورة التي بها يرسم الكاتب بورتريه «ماري براغاسيون» واحدة من الأجمل والأمتع في الكتاب، فهي هنا لتمثل الحب وأشواقه، الحب بمعناه الكلاسيكي وصولاً إلى سماته الأكثر تراجيدية. هذا من دون أن ننسى أخيراً صورة السيد دوبوا، تلك الصورة التي ستبدو لنا كأنها الـ «بروفة» الأولى والمبكرة جداً لصورة أناتول فرانس نفسه بعد نحو ثلثي القرن وهو يبدو لنا بابتسامته الماكرة وحسّه الساخر منكباً على دبج هذا الكتاب نفسه! > إن من الواضح، حتى وإن كان السيد دوبوا شخصية حقيقية منتزعة من ذكريات أناتول فرانس حين كان صبياً، من الواضح أنه يكاد يبدو هنا كأنه صورة تعبّر عن أناتول فرانس وقد أضحى كاتباً عجوزاً يجلس ليتذكر ويكتب. ولعل هذا ما يجعل من شخصية هذا العجوز – التي كانت على أي حال، آخر شخصية رسمها أناتول فرانس بقلمه في مساره الكتابي – واحدة من الشخصيات الأكثر قوة وجمالاً في هذا الكتاب الذي يظل هو نفسه من أجمل ما كتب أناتول فرانس وأعمقه (1844 – 1922) في مساره الكتابي الطويل والمجيد.
مشاركة :