«كتاب صديقي» لأناتول فرانس: صورة مواربة للذات في طفولتها

  • 3/20/2015
  • 00:00
  • 23
  • 0
  • 0
news-picture

هل كان أناتول فرانس ذلك الكاتب المناضل وصاحب الرسالة الذي صوره معظم النقاد ولا سيما عدد كبير من الكتاب العرب الذين آثروا السير على خطاه وترجموه إلى العربية، معتبرينه رمز التقدم خلال الربع الأول من القرن العشرين، أم أنه كان «ذلك المبرر العظيم لكل أنواع الأوهام» وفق الوصف الذي أسبغه عليه زميله جوزف كونراد؟ في الحقيقة يمكننا أن نقول ان اناتول فرانس كان مزيجاً من هذا وذاك. لكنه كان، قبل كل شيء، كاتباً كبيراً ذا نزعة انسانية واضحة، جعلته يوضع دائماً في خانة الجمهوريين الديمقراطيين الطليعيين، وكذلك في خانة كبار كتّاب الزمن الفاصل بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وأناتول فرانس وضع كتباً كثيرة، بين روايات ومسرحيات وقصص ونصوص أدبية خالصة، ناهيك بمقالاته السياسية التي سار في بعضها على خطى اميل زولا في دفاعه عن الضابط دريفوس ضد اليمين الفرنسي المعادي للسامية. والحال أن اناتول فرانس كان في هذا الدفاع متفرداً بين أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وكان منهم، لأن أياً من الآخرين لم يقف موقفه. ونعرف أن هذا الموقف جرّ عليه المتاعب لكنه كرس تقدميته وإنسانيته. > اذاً، لئن كان اناتول فرانس ترك عشرات النصوص، فإنه كان في معظم هذه النصوص أقل احتفاءً بذاته من بقية زملائه من الكتاب الفرنسيين. ومع هذا سيظل «كتاب صديقي» واحداً من أهم أعماله وأشهرها، تحديداً لأنه كان أكثر كتبه ذاتية. بل كان - وإلى حد كبير - سيرته الذاتية ولا سيما حين كان طفلاً بين الخامسة والسابعة من عمره. والحقيقة ان من يقرأ «كتاب صديقي» هذا سيدرك بسرعة أن عميد أدبنا العربي طه حسين انما كتب الجزء الأول على الأقل من «الأيام» متأثراً به، ولا سيما من ناحية استخدام ضمير الغائب للحديث عن الذات - خَفَراً أو كأسلوب أدبي مميّز - وهو استخدام عاد إليه طه حسين مرات ومرات ثم جاراه فيه كتاب عرب كبار آخرون من امثال ابراهيم المازني (في «ابراهيم الكاتب») والفيلسوف زكي نجيب محمود (في سيرتيه «قصة نفس» و»قصة عقل»). وسبق أن قلنا اعلاه ان الأدب العربي عرف اناتول فرانس باكراً، من هنا لن نجد هذا الاستيحاء غريباً. بل لعل اختياره يحسب لمصلحة متتبعيه، لأنه يسبغ على الأسلوب دواعي متعة في القراءة لا شك فيها، كما انه يخلص الكاتب، حين تدعو الحاجة، من جبرية تعرية الذات الراوية إن كتب النص كلياً بضمير المتكلم. > في «كتاب صديقي» الذي اصدره وهو في الحادية والأربعين من العمر، يروي لنا اناتول فرانس اذاً، طفولة «ذلك الصديق» الذي يطلق عليه اسم بيار، وتحديداً بيار نوزيار. وهو بالطبع شخص متخيَّل يشبه الكاتب في شخصيته ومواصفاته وتاريخه، من دون أن يكون هو هو نفسه، بمعنى أن اناتول فرانس يروي لنا هنا كل ما يريد - وليس ما يجب - أن يرويه لنا عن طفولته، من خلال بيار، وفي سلسلة من اللوحات التي تروح كل لوحة منها راوية حادثاً أو موقفاً أو حقبة زمنية عايشها بيار الصغير. لكن اناتول الكبير يقطعها هنا خلال الرواية ليقدم إلينا نظرته كبالغ الى ما يحدث، تفسيره للمواقف، رأيه في رد فعل بيار الصغير وفي ما يقول أو يقال له. وهذا الأسلوب يتيح للكاتب، ليس فقط، ان يتأمل ناضجاً ومحللاً نوازع شخصية بيار الصغير ودواخله، بل يتيح له ايضاً أن يرسم بدقة تفاصيل نظرة بيار الى العالم من حوله، وردود فعله المباشرة على كل ما يظهر له من هذا العالم. وهكذا في سرد يتأرجح برهافة بين نظرة بيار الصغير، والكاتب الناضج، ترتسم أمامنا صور للأوساط العائلية، لأول الأصدقاء... وغالباً على الشاكلة التي تلوح بها هذه الصور أمام ناظرَي طفل بين الخامسة والسابعة. والطريف هنا أن بيار الصغير هذا، يتأمل، يرصد، يشارك ثم لا يتردد في إصدار أحكامه... القاطعة على الآخرين. وإذ يتلقى الكاتب البالغ تلك الأحكام، سرعان ما نراه يتبناها ويوالف بينها بحيث تشكل في نهاية الأمر قاعدة اساسية لتجربة حياتية شديدة العمق، يلوح لنا بقوة كيف يتشارك فيها الطفل والرجل البالغ. ولعل ما يمكن التوقف عنده، هنا، وبالأحرى استناداً الى كبار النقاد والمؤرخين الأدبيين الذين تناولوا هذا العمل، هو ان اختلاط التجربة المقصود بين الطفل والكاتب، جعل الأمور تسير على عكس ما كان يمكننا ان نتصوره أول الأمر، حيث ان اجمل فصول الكتاب وأقواها، لا تعود تلك التي تتحدث عن الطفل الصغير وعن افعاله ومواقفه، بل الأخرى التي يكرسها الكاتب للآخرين: للشخصيات التي يرصدها الطفل ويتوقف بناظريه عندها وعند ممارساتها وعلاقاتها. انه عالم ينظر إليه طفل... لكن البالغ هو الذي يتلقى النظرة ويتوقف عندها طويلاً. وهذا التضافر بين النظرتين (النظرة الأساسية والنظرة على النظرة)، التضافر بين براءة النظرة الأولى ومكرها وعفويتها في آن معاً، والقدرة العميقة على التحليل الذي تتسم به النظرة الثانية، هو الأساس في هذا الكتاب. ومن هنا، طبعاً، ما يلاحظه المعنيون بأدب اناتول فرانس، وبهذا الكتاب تحديداً، من أن روعة المشروع تتوقف مع ذلك القسم الأول من النص. ذلك أن اناتول فرانس بعدما انجز «كتاب صديقي» وبالتحديد في الجزء الذي اطلق عليه عنوان «كتاب بيار» اراد أن يستكمل مشروعه على مقلب آخر، فوضع الجزء الثاني المعنون «كتاب سوزان»، وفيه تخيّل، هذه المرة، ان الصبي الصغير بيار قد كبر وصار رب عائلته، وها هو في هذا النص الجديد يحاول ان يرصد تصرفات وأقوالاً، باختصار كل حياة طفلته الصغيرة سوزان. لكن هذا المشروع لم ينجح بقدر ما نجح المشروع الأول. ذلك أن ما كان توثيقاً ودخولاً في ادغال الذات في «كتاب بيار» صار في «كتاب سوزان» مجرد عمل تخييلي يفتقر الى صدق المخلية الذاتية. وهذا التخييل خنق كل ما مكان يمكن النص أن يحمله من غرابة التوغل في ذات المتكلم في رحلة تسير مكوكية بين الماضي والحاضر. طبعاً لا يعني هذا الكلام هنا ان «كتاب سوزان» ليس قطعة أدبية مميزة. هو بالتأكيد عمل كبير وعميق، لكن مشكلته تكمن دائماً حين تبدأ المقارنة بينه وبين الكتاب الآخر. بكلمات اخرى: لو كتب اناتول فرانس «كتاب سوزان» من دون أن يكون قد استبقه بـ «كتاب بيار» لكان قيّض للكتاب الثاني ان يحظى بمكانة استثنائية بين اعمال اناتول فرانس الأدبية كلها، لكنه اذ جاء تالياً للعمل الرائع والفريد الذي سبقه، فقد قدراً كبيراً من جدّته وعمقه وبقيت له قيمة ادبية اكيدة، تفتقر الى عنصر الروعة والتفرد. > وإذ نقول هذا كله هنا، لا بأس من الإشارة بشيء من الاستغراب إلى واقع أن الكاتب الكبير الذي يقف خلف هذين العملين الأدبيين، يبدو منسياً أو شبه منسي في أيامنا هذه، مع أنه كان - كما أشرنا - عضواً في الأكاديمية الفرنسية، تقدمياً بين رجعيين، ومع انه نال جائزة نوبل للآداب في العام 1921، ما جعل له شهرة عالمية كبيرة بوصفه واحداً من أكبر الكتاب العلمانيين الجمهوريين الإنسانيين في العالم. وهذه الصفات لم تأت صدفة، اذ من المعروف أن اناتول فرانس ناضل في سبيل فصل الكنيسة عن الدولة ودافع عن حقوق المضطهدين، كما كان واحداً من أوائل الكتاب الذين نشروا المقالات والتعليقات في صحيفة «لومانيتيه» الاشتراكية التي أسسها جان جوريس في العام 1904 ثم أصبحت لسان الحزب الشيوعي الفرنسي لاحقاً. وأناتول فرانس المولود عام 1844، ليرحل بعد ذلك بثمانين عاماً (1924) اسمه الأصلي اناتول تيبو. اما اسم فرانس فقد استعاره من يافطة محل ابيه وكان مكتبة تسمى «نويل فرانس». ومن اشهر كتب هذا الكاتب المبدع، الى ما ذكرنا: «جريمة سيلفستر بونار» و»الآلهة العطشى» و»تاييس»... وغيرها. وبقي ان نذكر أن اندريه بريتون كان، لسبب غير واضح، يكره اناتول فرانس الى درجة انه نشر عنه في العام الذي مات فيه كتاباً صغيراً عنوانه «موت جثة».

مشاركة :