أول ما يثير الاستفزاز في فيلم «عنتر ابن ابن ابن ابن شداد» عنوانه الطويل الذي يعكس قلة حيلة، وسذاجة، وغياب الفطنة في إيصال الرسالة، التي تقول إننا في صدد الحديث عن السلالة الرابعة أو بالأحرى الحفيد الرابع للبطل عنترة بن شداد بن قراد العبسي (525م – 608 م)، أحد أشهر شعراء العرب في فترة ما قبل الإسلام، والملقب بـ «أبي الفوارس». العنوان المترهل يتناقض والحديث المختلف والطازج، الذي لا يقدِّم، كما كان متوقعاً، سيرة ذاتية أو تخيلية لحفيد عنتر، بل رؤية طازجة مزجت بين الأصالة والمعاصرة، واستهدفت الدعوة إلى لمّ الشمل العربي، ومجابهة المؤامرات والمخططات الأجنبية، وهو الهدف الذي قام عليه الفيلم، الذي كتب فكرته صادق شرشر وصاغ له السيناريو والحوار أيمن بهجت قمر وأخرجه شريف إسماعيل، لكنّه غاب عن فطنة كثيرين ممن تعاملوا مع الفيلم بسطحية وسذاجة... وسخرية في غير محلها! تبدأ الأحداث في متجر عصري لبيع الأجهزة الكهربائية لكنه ليس متجراً بالشكل التقليدي الذي اعتدناه في الواقع وعلى الشاشة. المتجر في شقة سكنية خصّص صاحبها «سعيد الأحمر» (باسم سمرة) إحدى حجراتها كمكتب له فيما اختار «التواليت» مكاناً لعمل شقيقه «حشمت» (محمد هنيدي) في إيحاء باحتقاره له، وتدني شكل العلاقة بينهما، وهو ما يثير كثيراً من التوتر، ويدفع «حشمت» إلى اتخاذ قرار بهجر شقيقه، والاستقلال بنفسه، بعدما ضاق ذرعاً بالذل والمهانة! مقدمة توحي بأن الأحداث ستقودنا إلى منحى تقليدي قبل أن تقودنا إلى منعطف مثير مع إعلان رجل الأعمال «كريم السرجاني» (الممثل التونسي تميم عبده) رصد مبلغ يُقدر بنصف مليون دولار أميركي لكل من يُقدم قطعة أصلية تنتمي إلى التراث العربي، وحجته في هذا «الحفاظ على التراث من الضياع، والتاريخ من التبديد»، وهي مبادرة تثير لعاب «سعيد الأحمر»، وتدفعه إلى إظهار الوثيقة النادرة التي خبأها طويلاً، وتكشف أن «حشمت» لم يكن يوماً شقيقاً له، بل هو طفل «لقيط» عثر عليه والده «الأحمر» الكبير، ورباه، بينما هو في الحقيقة حفيد البطل عنتر ابن شداد! نية الجشع والطمع كانت واضحة للغاية في سلوك «سعيد الأحمر»، الذي كان يُطالب «حشمت» بسداد مبلغ 128 ألف جنيه، سبق أن أنفقت عليه، لكنها اتخذت شكلاً تآمرياً خبيثاً ومشبوهاً في حال التاجر الغامض «كريم السرجاني»، الذي يرصد أموالاً ضخمة، وعتاداً وأسلحة، لجمع التراث، طمعاً في محو الهوية، والاستيلاء على الوثائق والمخطوطات النادرة، بهدف تزييف التاريخ وتزويره، ونسبه إلى «الآخر» إذا أراد! في هذه الفكرة، الرسالة، يتسم فيلم «عنتر ابن ابن ابن ابن شداد» بالجدة والجديد والإثارة، وتكتسب التجربة عمقاً يمنحها قراءات متعددة عند التلقي، لكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، فالتداخل المتعمد بين الماضي والحاضر يُزيد الأمور تعقيداً، ولا يأتي بالسلاسة المطلوبة، أو يفجر الكوميديا المنشودة، كما كان متوقعاً في مشهد بحث الرجال والنساء في ملابس العصر الجاهلي عن سيف «عنترة» في شارع نوال بالعجوزة، أو حديث القبيلة عن «السكايب» و{الواتس آب»، أو لعب «البلاي ستيشن» واستخدام «اللاب توب» و{الآيباد»، أو الاستعانة بسيارة رباعية الدفع. كذلك ضآلة بنيان محمد هنيدي، وتكوينه الجسماني الهزيل، لم يقنعا أحداً بأنه «قاهر الجبال وتمساح الصحراء وزير النساء»، كما قال الفيلم، ذلك على عكس التميز الواضح في المشاهد التي صورت في الصحراء (كاميرا أحمد فتحي) ونجح إسلام يوسف في إضفاء مصداقية كبيرة عليها بديكوره وملابسه. لم يحقق الفيلم طموحه في تقديم الكوميديا الساخرة، وباستثناء درة التي وظفت اللهجة التونسية بذكاء لإضفاء واقعية على شخصيتها البدوية، اختلط الحابل بالنابل بالنسبة إلى الممثلين، وزادت جرعة المبالغة للغالبية (هالة فاخر، ومحمود حافظ، وخالد سرحان، ولطفي لبيب) وتوارت موهبة البعض (ضياء عبد الخالق، ومحسن منصور) واستمات هنيدي في إيصال الرسالة، وإضحاك الجمهور، لكن التوفيق خانه. وتكرّرت الحال مع «سمرة»، ربما لخلل في كتابة الشخصية دعاه إلى الاستقامة فجأة، ووقوعه في خطأ فادح بارتباطه والعميلة «ريتا»، التي كانت تجند المواطنين للعمل مع التاجر الخائن، الذي سقط القناع عن وجهه، بعد توحد أبناء القبائل العربية، الأعداء منهم قبل الأصدقاء، وتوظيفهم سلاحه الذي أمدهم به لمواجهته، ودحره ! أجمل ما في «عنتر ابن ابن ابن ابن شداد» أنه لم يستدع من الفيلم القديم، الذي عُرض في نهاية 1961، وقام ببطولته فريد شوقي وكوكا من إخراج نيازي مصطفى، سوى بعض مشاهد عابرة، في سياق توظيف فن «البارودي»، وأنه استبدل بفروسية السيف إستراتيجية العصر التي تحثّ على الوحدة ونبذ الفرقة، وإعمال «العقل» و{الدهاء» لإجهاض مخططات الأعداء، والاقتداء بالأجداد في النبل والهمة، مع ضرورة مراجعة التاريخ، والتشكيك في ما أصبحنا نراها مسلمات، كالإشادة بعنترة، الذي مات وهو يقاتل بسيفه، بينما يؤكد أيمن بهجت قمر، ساخراً، أنه مات بنزلة برد!
مشاركة :