تجديد الخطاب الديني في مصر شعار أم حوار ثقافيتجديد الخطاب الديني، عنوان عريض تضعه مؤسسات مصرية رسمية على رأس قائمة مهامها طوال العام الجاري 2017، وتعمل تحت مظلته وزارات وهيئات مختصة، منها وزارة الثقافة، انطلاقًا من توجيهات سياسية عُليا تتكرر باستمرار بهذا الشأن، آخرها تأكيد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في يونيو الماضي أن تجديد الخطاب الديني “هو قضية حياة أو موت للأمة الإسلامية بأكملها، شريطة عدم المساس بالثوابت”.العرب شريف الشافعي [نُشر في 2017/07/11، العدد: 10688، ص(14)]تجديد الخطاب الديني معركة مستمرة المطالع لتصريحات حلمي النمنم وزير الثقافة المصري، خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، يدرك بوضوح إلى أي مدى يحتل “تجديد الخطاب الديني” أولوية “الخطاب” الوزاري في مصر. منذ أيام قليلة، على سبيل المثال، أسهب النمنم في توضيح أن عدم الامتثال لتجديد الخطاب على النحو المرجو، من شأنه إرهاق المجتمع بفاتورة باهظة الثمن. أبوزيد الغائب هل تجديد الخطاب الديني مجرد شعار أم رغبة حقيقية في إجراء حوار ثقافي؟ سؤال يطرح نفسه بقوة في المشهد الثقافي المصري، بعدما مرت ذكرى رحيل الكاتب والمفكر نصر حامد أبوزيد مرور الكرام (5 يوليو 2010)، دون أي التفات من قطاعات وهيئات وزارة الثقافة، الأمر الذي فسره البعض بالإهمال وعشوائية التخطيط، في حين رآه آخرون هشاشة وضعفا، وربما تسللت إلى أذهان مفكرين ومثقفين مستقلين هواجس حول علو كعب الأصوليات والتيارات الرجعية، وهيمنتها على الساحة، الأمر الذي دفع وزارة الثقافة إلى تجاهل الاحتفاء بصاحب نقد الخطاب الديني، إيثارًا للسلامة.تجاهل ذكرى نصر حامد أبوزيد حلقة منطقية في سلسلة إخفاقات ملف تجديد الخطاب الديني من الوجهة العملية على أن وزارة الثقافة المصرية لا تزال لديها فرصة لتدارك ما تعرضت له من انتقادات بشأن إغفال الذكرى السابعة لرحيل نصر أبوزيد، إذ تحل في شهر يوليو أيضا مناسبة أخرى تتعلق بمؤلف “التفكير في زمن التكفير”، هي ذكرى ميلاده (10 يوليو 1943). في هذا الإطار أطلق الدكتور حاتم ربيع، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، تصريحًا فضفاضًا لم يرق إلى حيز التنفيذ الفعلي بعد، بشأن إمكانية “الإعداد السريع” لاحتفالية تحمل اسم الدكتور أبوزيد، معترفًا بأن ذلك لم يكن مدرجًا في جدول أعمال المجلس، لكن “لا بأس من إعادة النظر”. في ظل التجاهل الرسمي لذكرى أبوزيد، أحيا مثقفون وكتّاب بأقلامهم في الصحف، وفي مواقعهم وصفحاتهم الإلكترونية، ذكرى مؤلف “مفهوم النص” و”فلسفة التأويل”، باستعادة أفكاره، وتحليلها ومناقشتها، وتطرقوا إلى ذكرياتهم الشخصية معه. أجمعت الآراء على وجود تقصير رسمي كبير إزاء أبرز وأشهر من خاض معارك تجديد الخطاب الديني، وتعرض بسبب كتاباته ومواقفه لإيذاء متصاعد، تبلور في النهاية في صيغة قرار من محكمة الأحوال الشخصية بفصله عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس بوصفه “مرتدًّا عن الإسلام”، الأمر الذي دفعه إلى الرحيل عن مصر خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته. فعاليات أم كارنفالات؟مفكر فضح المتكلسين سواء أقامت وزارة الثقافة المصرية ندوات ومؤتمرات حول تجديد الخطاب الديني، ورموز هذا التجديد، أو تقاعست عن إقامتها، فإن تلك الفعاليات تأتي عادة محل تشكيك وانتقاد، إذ تتسم بالنخبوية والضيق، وتفتقر إلى الترويج الجماهيري والإعلامي اللائق، وتتصف بإهدار الحوار الجدلي الحر المثمر، خصوصًا مع ممثلي التيارات الدينية، الموصوفة بالاعتدال، والأخرى المعروفة بالتشدد والتكلس. “فرج فودة.. حضور رغم الغياب”، على سبيل المثال، فعالية أقامها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة الشهر الماضي، في الذكرى الخامسة والعشرين لاغتيال الكاتب (8 يونيو 1992) بأيدي الجماعة الإسلامية. لم تشهد الاحتفالية حوارًا متعددًا أو حتى ثنائيّ القطب يفضي إلى تحريك المياه الراكدة، وإنما ارتدَت، مثلها مثل غيرها من الفعاليات المشابهة، زيًّا كارنفاليا، وتبادل ممثلو الوزارة وعدد من المبدعين والإعلاميين ومناصري العلمانية إلقاء الكلمات المكررة والقصائد الطنانة حول حلم الدولة المدنية، والحرية، والليبرالية، والتعددية الحزبية، ونقد كليشيهات التيارات الدينية من قبيل “الإسلام دين ودولة”، وما إلى ذلك من بيانات خطابية إنشائية، لا تقود بصورة عملية إلى تجديد الخطاب الديني. ندوة أخرى أقامها “المركز القومي للترجمة”، خلال يونيو الماضي أيضًا، في سياق تجديد الخطاب الديني، انطلاقًا من مناقشة الأفكار التي يتضمنها كتاب “الفلسفة الصوفية عند محيي الدين ابن عربي”، من تأليف أبوالعلا عفيفي، وترجمة وتقديم مصطفى لبيب عبدالغني. لم تصل تلك الندوة أيضًا إلى مرادها؛ بالتكريس للتصوف كمرادف للإسلام المتسامح (الفكر الديني المتجدد)، في مواجهة التيارات المنغلقة والمتشددة، إذ أقيمت وسط حضور محدود للغاية، في غياب تام لممثلي التيارات الدينية، وأعضاء الطرق الصوفية الحالية، واتخذت الندوة سمة “المحاضرات الجامعية”، مقتصرة على طرح نظري مجرد لأفكار ابن عربي والمتصوفين القدامى، وتبيان ما لهذه الأفكار من فضائل وما فيها من نقائص تقتضي التمحيص.مشاركون في الندوة انتقدوا محاولات المؤسسة الرسمية تصدير التصوف كمعادل هلامي للتجديد الديني، ولم يقدم هؤلاء المتحدثون أي طرح بديل لتفعيل التجديد الديني المنشود انتقد مشاركون في الندوة محاولات المؤسسة الرسمية تصدير التصوف كمعادل هلامي للتجديد الديني، ولم يقدم هؤلاء المتحدثون أي طرح بديل لتفعيل التجديد الديني المنشود. قبل أسابيع قليلة، لم ينج مؤتمر “فلسفة التأويل: آفاقها واتجاهاتها” (أبريل 2017) من السلبيات ذاتها، من حيث النخبوية والضيق وانغلاق دائرة الحوار والسباحة في فضاءات التجريد والخيال. وطرح المؤتمر، الذي انعقد بالتعاون بين المجلس الأعلى للثقافة وكلية الآداب بجامعة القاهرة و”الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير” برئاسة الدكتور مراد وهبة، قضية “التأويل” باعتبارها القضية الجوهرية في الوقت الراهن، مراهنًا على ضرورة إعمال العقل في النص المقدس لإنجاز هذا التأويل وتجديد الخطاب الديني، على أن المؤتمر أقر بأن ذلك الأمر مرفوض تمامًا لدى الأصوليات المتشددة، التي تلجأ إلى “التكفير” إزاء مثل هذا النوع من “التفكير”، وبقي “رفض الآخر” عنوانًا لما آلت إليه فعاليات المؤتمر. يأتي تجاهل ذكرى نصر حامد أبوزيد كحلقة منطقية في سلسلة إخفاقات ملف تجديد الخطاب الديني، من الوجهة العملية، فآليات تحقيق ذلك التجديد وتفعيله جماهيريًّا ضبابية، وأسئلة الإعمال العقلي والتأويل لا تزال تجدد ذاتها بذاتها، ناكئة يومًا بعد يوم جراح “التكفير”، التي لم يبرأ منها جسد المجتمع بعد.
مشاركة :