حتى عندما تعلن الشركات الأميركيّة الكبرى أنها «حصينة»، يجدر التفكير جيداً قبل قبول هذا الكلام. وفي 2016، أعلنت شركة «آبل» أنها حافظت على سريّة تشفير «آي فون» في مواجهة طلب رسمي من الـ «أف بي آي» التي أعلنت لاحقاً أنها كسرت التشفير واستغنت عن تعاون «آبل» في ذلك! وفي مطالع العام 2017، أعلنت «آبل» أيضاً أن «كلاود» (سحابة معلوماتية تتكدس فيها بلايين البيانات) لم تخترق. لكن البيان الصادر عن الشركة صمت صمتاً مدويّاً عن مسألة «فترة الحضانة» التي جرى الحديث عنها آنفاً، وكذلك «سها» عن باله أنّ تلك «السحابة» اخترقت فعليّاً في 2015، وتسرّبت منها صور حميمة أحرجت مجموعة كبيرة من فنّانات هوليوود كليندسي لوهان وجنيفر لورنس وميلا كونيس وغيرهنّ! انكشاف استراتيجي تقدّم المعطيات الآنفة الذكر عينة عن ضعف أميركا الاستراتيجي في حروب الانترنت، خصوصاً عندما تستكمل بما هو معلن عن تكرار اختراق مجموعات عسكريّة مختصة في الجيش الصيني، لمواقع أميركيّة تشمل شركات المعلوماتية والصناعات بأنواعها ومشاريع الأسلحة المتقدّمة وغيرها. وفي حدث يصلح إعلاناً صريحاً عن الضعف الأميركي، توصّل الرئيس السابق باراك أوباما إلى اتفاق مع الرئيس الصيني شي جينبينغ، على وقف الحرب الشبكية بين بلديهما عبر تشكيل مركز قيادة مشترك بينهما. ولم يحصل شيء مماثل مع روسيا، على رغم شكوك واسعة بأنها اخترقت مواقع الحزبين الأميركيّين الرئيسيين اللذين يمسكان تداولاً بالسلطة في أميركا منذ عقود مديدة. وأطلق الرئيس الشعبوي دونالد ترامب وعداً انتخابيّاً جازماً بأنّ يجعل الولايات المتحدة القوّة المتفوّقة الأولى في الفضاء الافتراضي للانترنت. ولم يفعل شيئاً حتى الآن، على رغم صلة ذلك الأمر بمسائل تمتد من علاقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا تنتهي عند وعده بالقضاء على جماعة «داعش» التي تملك ذراعاً قويّة تماماً في فضاء الإنترنت. وقبل بضعة أسابيع، أطلق توم بوسير، مستشار ترامب لشؤون الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب، وعداً بظهور أمر تنفيذي رئاسي يوضح استراتيجيّة ترامب في حروب الانترنت، «خلال أسابيع قليلة مقبلة». وأشار إلى التركيز على حماية الشبكات الفيديراليّة، ومكافحة الشبكات السريّة لـ «العالم السفلي» للإنترنت، و «إلحاق الهزيمة بمناوئينا على الإنترنت»، وفق كلمات بوسير. وإذا أخذنا الفشل الطويل خلال عقود مديدة الذي عانته (وما زالت) أميركا في حروب الانترنت، يصبح صعباً ابتلاع وعد بوسير، على رغم شيوع القول في المؤسّسة الأميركّية بالأهمية القصوى لخروج أميركا من ضعفها الاستراتيجي الشبكي. وفي وقت قريب تماماً من وعد بوسير، صرّح ريتشارد لِدجِت، نائب مدير «وكالة الأمن القومي» الأميركيّة، أنّ تصحيح ذلك الضعف الاستراتيجي «يتطلّب إرادة الأمة الأميركيّة بأسرها»، مشيراً بوضوح إلى الدور الخاص الذي يملكه القطاع الخاص (الشركات الأميركيّة الكبرى في المعلوماتية والاتصالات) في ذلك، علماً أن ثمة حساسيّة فائضة بين تلك الشركات عينها وإدارة ترامب، خصوصاً في شأن قيوده على الهجرة التي تهدد بحرمان تلك الشركات من تدفّق عقول مهاجرة تمثّل تجدّداً حيويّاً فيها. ويضاف إلى ذلك أن موقف ترامب المعادي للعولمة، يبعده أيضاً عن التعاون العميق لتلك الشركات (على رغم عدم امتلاكها حلاً سحريّاً لمعضلة الثغرات) التي تعتبر نفسها جزءاً من العولمة، بل يعتمد عملها أساساً على استمرار التدفق المفتوح للبيانات والمعلومات والأعمال عبر الكرة الأرضيّة بأسرها. باختصار، على رغم رطانة باتت مألوفة في وعوده وخطابه، ليس من المحتمل أن يتمكن ترامب من إخراج أميركا من وضعيّة الخاسر استراتيجيّاً في موازين القوّة على الفضاء الافتراضي للإنترنت.
مشاركة :