الاتفاق الروسي - الأميركي حول منطقة آمنة في جنوب سورية، والاتفاقات الأخرى التي في طور التحضير، نقطة تحول حاسمة في القضية السورية، وقد تكون بداية نهاية القضية السورية في شكلها القتالي. فهو ينقلها إلى أعلى مستوى ممكن، ويحصر معالجتها بالقوتين العظميين، بالتالي يجعل كل اتفاق أو قرار بشأنها قابلاً للنفاذ، بعد أن علقت المبادرات والحلول لسنوات طويلة في الاستعصاء الذي فرضته توازنات القوة بين المتنازعين المحليين والإقليميين وتناقضاتهم، ودفع ثمنها الشعب السوري غالياً. تمثل كل من الولايات المتحدة وروسيا معسكراً من المتصارعين في سورية وعليها، وهما قادرتان على تلافي التباينات داخل كل معسكر، وعلى فرض القرارات على الجميع، عبر تسوية سياسية، لم يعد من الممكن الفرار منها، في ظل المأزق الدموي الذي وصلت إليه البلاد، وهو استحالة انتصار أي طرف. لقد أعلن الروس والأميركيون، أن الاتفاق الحالي لا علاقة له بما يدعى بمسار آستانة، وهذا مبدئياً كفّ يد كل من إيران وتركيا، وبداية عملية تحييد المتصارعين الأكثر عنفاً وإشكالية في الصراع، سواء كانت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، أو القوى السنية المتشددة، أو حتى الجزء المرتبط بحزب العمال الكردستاني من المقاتلين الأكراد. وهي رؤية يبدو أن الجانب العربي المعني قد أبلغ بها باكراً سواء من الطرف الأميركي أو الطرف الروسي، ونالت رضاه، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد الصمت والإحجام العربي غير المفهوم في سورية منذ أشهر طويلة. الاتفاق الذي يشمل جنوب سورية حالياً يتضمن إخراج إيران وميليشياتها من هناك، من خلال حضور عسكري روسي على الأرض، ومراقبة عن كثب من طرف الأردن وإسرائيل لجديّة تنفيذ ذلك، ويتضمن من ناحية أخرى القضاء على جيوب «داعش» والنصرة في تلك المنطقة، وهو ما ستتكفل به واشنطن والقوى المرتبطة بها على الأرض. الأمر عينه سينسحب على بقية المناطق، من ريف دمشق إلى حمص إلى الحدود الأردنية إلى الحدود مع العراق، وصولاً إلى شرق سورية الذي سيكون الحلقة الأخيرة والختامية من الصراع ومن التسوية معاً، نظراً الى تعقد وتجمع الملفات الحساسة هناك. فهو الملاذ الأخير لداعش، وهو مركز الملف الكردي في سورية، إضافة إلى كونه الجدار الفاصل بين النفوذ الإيراني في العراق ومناطق نفوذ إيران على المتوسط، وهذا إلى الموارد التي تكتنفها تلك المنطقة بوصفها «سورية الغنية» حيث النفط والماء. بعد إخلاء الميدان السوري من القوى المتطرفة السنية منها والشيعية وكذلك الكردية، ينتظر أن يجري التفكير بترتيب بديل للأسد ونظامه، يرضي بعض المعارضة وفصائلها، ويراعي بعض متطلبات القوى الإقليمية التي تم إبعادها من دون استبعاد مصالحها بطبيعة الحال، ويؤمن بعض الاستقرار داخل البلاد، وسلطة أمنية عسكرية تستطيع منع ظهور القوى الإسلامية المتشددة مجدداً. الرئيس بوتين الذي نال أخيراً ما سعى إليه لسنوات في سورية، وهو التعاون الأميركي في الملف العسكري، سيفعل كل ما في وسعه لإنجاح هذا الاتفاق وتطويره، وسيتخلى عن حذره الذي لازمه في السنتين الماضيتين خشية التورط وحيداً في الرمال المتحركة السورية، وهو يعرف جيداً ثمن هذا التعاون وإطلاق يده في مسألة تقرير مصير سورية، وهو إخراج الميليشيات الايرانية، الذي هو ليس فقط شرطاً أميركياً، بل مطلب عربي وإسرائيلي ملح. لكن مواجهة إيران بمطلب مغادرة ميليشياتها سورية ليست سهلة، فهي ستمانع في البداية بلا شك، ثم ستطلب تعويضاً مجزياً لما قدمته طوال السنوات الماضية. والأمر لن يقتصر على نفوذ في سورية وتأسيس مركز قوى يحفظ مصالحها هناك، بل ضمان نفوذها في لبنان، من خلال ممر ما إلى حليفها «حزب الله». تركيا أيضاً لن تخضع للإملاءات ببساطة، ستطلب أجوبة عملية عن سؤال الدولة أو الإقليم الكردي في جنوبها، ولديها أوراق قوة ستلعبها، ابتداء من وجودها العسكري المباشر في شمال حلب، وصولاً إلى علاقاتها القوية ببعض فصائل الشمال، مروراً بورقة اللاجئين الذين تحتضنهم. بين هؤلاء وأولئك يقبع نظام الأسد والمعارضة السورية، وهما بحالة يرثى لها من البؤس والاعياء، ومن فقدان الفاعلية والقدرة الذاتية، بعد أن سلم كلاهما أوراقه للقوى الخارجية، التي ستقوم بالتوافق في ما بينها بصنع واجهة لنفوذها ومصالحها وأطماعها من ركام النظام والمعارضة، على شكل نظام قليل التماسك، يشارك فيه فقط من يكون له دور وظيفي لمصلحة تلك القوة أو تلك، ومن لا يكون كذلك سيجد نفسه حجراً ناشزاً وغير محتاج إليه، وسيلقى إلى الإهمال ويغيبه الصمت. في البعيد البعيد، يقبع الشعب السوري صامتاً، خائر القوى محطم الاحلام، لا ينتظر شيئاً وغير راغب بشيء، سوى أن يتوقف الجميع عن طعنه. * كاتب سوري
مشاركة :