الشارقة: «الخليج» لا يكرر التاريخ نفسه أو يعيد نفسه فقط، بل، النظريات والمفاهيم السياسية والمصطلحات تعيد نفسها هي الأخرى ليس بوصفها جزءاً من التاريخ؛ بل لأنها ترتبط بمفكرين وفلاسفة ومنظرين عاشوا في بيئات سياسية واجتماعية، وانشغلوا بوضع أفكار ونصوص ترقى أحياناً إلى كونها تعاليم أحياناً قابلة للنقض والنقد، وأحياناً قابلة للعيش في ذاكرة البشرية المتجددة؛ ولذلك تستعاد هذه الأفكار من وقت آخر في البيئات المشابهة، أو البيئات السياسية الجديدة التي يكون التاريخ شاهداً عليها بأكثر من وثيقة.عاش الفيلسوف (المفكر السياسي النفعي)، نيقولا ميكافيلّي بين القرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر (1469 ولادته، ووفاته في العام 1527)، ارتبط اسمه بكتاب «الأمير» الذي أهداه إلى أمير مديشي = لورنزو العظيم، كما أطلق عليه هذا اللقب أهل فلورنسا، والأمير مديشي كما جاء في الإهداء هو «الابن العظيم لبيرو دي ميديشي»، وكان جمع مادة الكتاب من خلال احتكاكه بالحطابين في الغابات، وبالطحانين والقصابين في الحانات، ومنذ البداية سيبدو «ميكافيلّي» صاحب العبارة الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة» شخصاً انتهازياً، ففكرة كتاب «الأمير» في الأساس تقوم على رغبته المحمومة للتقرب من الأمير فيكون واحداً من حاشيته ومستشاريه.. والغريب، ونحن نقرأ سيرة هذا القائل: «الطريقة الأولى لتقييم حكمة الحاكم هي النظر إلى الرجال المحيطين به..».أسوأ من ذلك يقول ميكافيلّي.. «حبي لنفسي قبل حبي لبلادي». وتصور رجلاً يقول هذا الكلام الأناني النرجسي.. يصبح عرّاباً ومفكراً يبيع أفكاره في سوق النخاسة السياسية، ويتقرب منها للأمير «لورنزو».يُستعاد الكتاب، ويُستعاد ميكافيلّي، ويُستعاد الأمير في الحالة القطرية أو في الأزمة القطرية بصورة مقربة جداً، وبعد قراءتي للكتاب الذي يقع في 126 صفحة فقط، وشغل العالم، وكان هتلر يضعه على مقربة من سريره، واختاره «موسوليني» موضوعاً لرسالة الدكتوراه أيام دراسته كما جاء في مقدمة النسخة التي نقلها إلى العربية أكرم مؤمن.. أقول.. بعد قراءة هذا الكتاب تجد الكثير الكثير الذي يمكن مقاربته بأمير «مديشي» في القرن الخامس عشر، وبين أمير قطر في القرن الحادي والعشرين، وإذا اعتبرنا ميكافيلّي عرّاباً للأمير «المديشي» فما أكثر العرّابين والانتهازيين والمرتزقة وأصحاب البلاغة الدينية الإسلامية المسيسة حد العنف والتطرف حول الأمير القطري.الغدر بالأهل والأقارب كانت من طبائع الأسرة الحاكمة في عهد الأمير «لورنزو».. ولتوضيح هذا الأمر يقول مترجم الكتاب في المقدمة حول (الناصح) ميكافيلّي والمنصوح الذي هو الأمير المديشي.. «..هذا الناصح الأمين لم يخجل من ذكر نصائحه صراحة، ودون محاولة لتغطية ما فيها من معاني الخسة والانتهازية، وعدم احترام حقوق الآخرين، بل، واعتبار أن قتل الأبرياء شيء طبيعي من الممكن فعله من أجل الحفاظ على ملك مغتصب؛ وذلك عندما نصح الأمير بأن يبيد جميع أفراد الأسرة المالكة فيما يسقط بين يديه من ولايات وإلا أصبحوا خطراً عليه، وضرب على ذلك مثلاً بمن قتل كل أعيان وكبار بلده غدراً، ومن بينهم خاله الذي احتضنه، ورباه بعد وفاة والديه». إذاً: ثمة متشابهات بين الوضع النفسي (السيكولوجي المرضي) الذي كان يعانيه «لورنزو» وبين سيكولوجيا الأمير القطري الذي تقول السيرة السياسية لأسرته الحاكمة إن الابن قد أقصى الأب من الحكم، ثم تكرر الإقصاء في حالة الأمير تميم الذي أقصى أباه (حمد).. هذا الأخير الذي يقال الآن إنه يحكم من وراء ستار.. ومن بين أدبيات هذا الحكم تحضر عبارة ميكافيلّي.. «..الغاية تبرر الوسيلة». الغاية والوسيلة ما الغاية، في الحالة القطرية السياسية المرضية؟ وما الوسيلة؟باختصار الغاية هي (تمطيط) قطر على الخريطة لتصبح أكبر من حجمها. الغاية أيضاً تحقيق الشعور بالتفوق والعظمة، أو، الشعور بالعظمة حد الإشباع.الغاية القطرية أيضاً، ملء البلد بالأفّاقين، والأبالسة، وقطاع الطرق وقطاع الرحم أيضاً.. الغاية القطرية أيضاً.. الغاية القطرية أيضاً.. تحويل قطر (بالنفخ) إلى امبراطورية ولو من ورق.. الغاية تحويل قطر إلى (مونديال)، ومهرجان خطابة إيديولوجية، وعقائد هي في جوهرها (مجموعة عُقد).هذا يبدو على السطح لمن يريد قراءة (الغايات) القطرية، ولكن قد يكون المخبأ هو الأفظع، وأننا الآن، ونحن نجتهد في توصيف الغايات القطرية، فنحن في الواقع لا نرى حتى الآن سوى رأس الجليد.. أما الكتلة الكبيرة الباردة فما زالت (طي الكتمان) تتأرجح في إطار ثقافة الغموض والمماطلة في السياسة القطرية.ننتقل الآن إلى الجناح الآخر من العبارة الميكافيلية المرعبة.. وهو (الوسيلة).الوسيلة أو الوسائل القطرية مكشوفة ومعروفة، لأن الدولة القطرية برمتها أشبه بخبر عاجل يومي على شاشة «الجزيرة». ومن الوسائل قناة «الجزيرة» نفسها (المرتع) الخصيب لإعلاميي الفكر «الإخونجي»، و»العقيلة الإخونجية». وإذا أردنا أن نتوسع ولو قليلاً في هذه النقطة فإن مئات بل آلاف الإعلاميين في العالم كله هم قد رضعوا عبارة «الغاية تبرر الوسيلة» حتى العظم، فكم من قلم مأجور يبيع ضميره (وسيلة) من أجل حفنة دولارات (غاية).فضائية «الجزيرة» القطرية مثال (أسود تماماً) على ولوغ قيادات إعلامها التحريض التعبوي في المال القطري، وانتهاز هذا المال، وتوظيفه نحو منظمات وأحزاب وجماعات دينية مسلحة.نواصل «الوسائل القطرية الميكافيلية)، أيضاً على النحو التالي.. فلكي تكتمل دائرة الغاية لدولة الخبر العاجل.. انفتحت الدولة كلها لنماذج من مثل عزمي بشارة، ويوسف القرضاوي، أصبحت قطر مزرعة من لا مزرعة عقائدية له.. مال، وإعلام، وحماية أمنية، وامتيازات وصلت حد التجنيس.تحولت قطر بالتراكم والتدريج إلى حاضنة مادية اقتصادية ضخمة لتغذية الإرهاب، وبالضبط، وفق الرؤية الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة).. وعندما تبحث عن لغة التبرير القطرية تقرأ، ثانية، لغة التوائية، رغوية، لا مبالية لا بالمحيط العربي، ولا بالإقليم الخليجي العربي استناداً مرة ثانية إلى السيكولوجية التي تدفع بمريضها إلى حد التضخم، المؤدي بالطبع، إلى الانفجار. حبائل المرتزقة كان ميكافيلّي ينصح أميره «المديشي» بما يتعلق بالمرتزقة بشكل خاص، ويبدو أن «لورنزو» كان واقعاً بين مخالبهم في ذلك العصر الذي يشبه عصرنا اليوم.. ولا ندري إن كان الأمير الذي حظي بكتاب يستعاد إلى اليوم يصغي إلى النصائح أم لا.. وفي الحالة القطرية المرضية تقع الدولة برمتها في حبائل المرتزقة.. وقد (باعت) قطر نفسها للإرث الفارسي المجوسي بسرعة البرق، وباعت نفسها وذاكرتها أيضاً للعثمانية التركية، وأصبح رجب طيب أردوغان يتحدث عن قطر وكأنها ولاية في الأناضول..في الفصل الثاني عشر من الكتاب.. يعطي ميكافيلّي رؤيته للأمير (لورنزو) على النحو التالي:..«أنا أرى أن الأسلحة التي يدافع بها أمير عن ممتلكاته إما أن تكون أسلحته الخاصة، أو أسلحة لقوات مأجورة أو أسلحة حلفاء له أو مختلطة، وأسلحة المأجورين والحلفاء بلا فائدة وخطيرة، وكل من يقيم دولته على أسلحة قوات مأجورة لن يستطيع التأكد من قوة وثبات ولايته لأنها قوات مفككة ولها مطامعها الخاصة، وغير منظمة ولا عهد لها. وهي تبدو قوية أمام الأصدقاء، لكنها جبانة عند مواجهة الأعداء».هنا يعمد ميكافيلّي إلى الشرح.. يقول: «..سأشرح بالتفصيل عيوب هذه القوات المسلحة المرتزقة.. حيث إن الضباط المرتزقة إما أن يكونوا ذوي كفاءة أو غير أكفاء، فإذا كانوا أكفاء فإنه لا يمكن الاعتماد عليهم، لأنهم يثبتون لأنفسهم أنهم عظماء إما بابتزازك وأنت سيدهم أو بالضغط على غيرك لما هو في غير صالحك..».لا ندري إن كان ميكافيلّي قد سبق زمنه.. أو أنه يقدم في كتابه «الأمير» رؤية فكرية سياسية ثقافية لمفهوم المرتزقة المسلحة، وابتزازها، وفي الحالة القطرية يتوضح هذا المفهوم في إطار الابتزاز السياسي والمالي، وكأن الدولة غنيمة أو كعكة تمتد إليها الأيدي من الأخطبوطين: إيران وتركيا.في النهاية، يخلص، ميكافيلّي إلى القول:..«..إن قصارى الخطر المتمثل في القوات المرتزقة يكمن في جبنها وتخاذلها عن القتال..».. وفي مكان آخر يذكّر ميكافيلّي، الأمير بسبب انهيار امبراطوريات بأكملها اعتمدت على شراء أناس مرتزقة لا انتماء لهم أصلاً بالناس ولا بالمكان.. يقول: «..الأمير الذي يخفق في أن يلاحظ مشكلات إمارته في مهدها لا يمكن وصفه إلا بأنه غير حكيم، فالحكمة توهب للقليلين فقط، وإذا ما نظرنا إلى أسباب الانهيار الأول للامبراطورية الرومانية فسنجد أنه كان بسبب استئجار قوات مرتزقة من «الغوت» لأنه منذ ذلك الوقت بدأت القوات الرومانية في الضعف».ينهي ميكافيلّي حديثه قائلاً: (والأمير يصغي أو لا يصغي).. «.. لذلك فإني أنهي حديثي بالتأكيد على أنه لا سلامة لأمير يحتمي بقوات مسلحة غير قواته الوطنية، فبدون قواته المسلحة الوطنية يتوقف مصيره على حسن الطالع فقط، وسيظل بلا وسيلة يملك بها الدفاع عن نفسه حين تضطرب الأحوال..». المتملقين السياسيين كانت تعشش في «مديشي» جماعة من المتملقين السياسيين حول الأمير.. لقد جاء بهم وقربهم، وأعطاهم الكثير من الامتيازات إلى درجة أنهم أخذوا بصناعة القرار في «مديشي» تماماً كما يجري اليوم في قطر؛ حيث الذباب الحزبي والإعلامي والسياسي و»الإخونجي» يطّن ويتكاثر على العسل القطري، والأمير يبتسم، كما كان يفعل «لورنزو»، ولكن من يدري، فربما لم يكن يعرف حتى القليل من النوم في دولة كانت محشوة بتجار المال، وتجار الضمائر أيضاً.. هنا يتقدم ميكافيلّي من «لورنزو» ويقول له: «..إن اختيار أمناء للأمير لا يعتبر أمراً قليل الأهمية، فالأمناء إما صالحون أو غير صالحين، وهذا يتوقف على حكمة وذكاء الأمير.. ويمكننا أن نقيّم الحاكم وعقله حين نرى من يحيط به من الرجال..».. وفي الحالة القطرية يحيط بالأمير: الانتهازي، المرتزق، الإسلاموي المسيس الهارب والمطلوب للعدالة، في العالم، والإعلامي الذي لا يعرف سوى رصيده في البنك، ورصيده العقائدي عند مدير الفضاء المفتوح.لا يكف ميكافيلّي عن «النق» فوق رأس «لورنزو» محذراً إياه من كوارث المتملقين على شاكلة بشارة والقرضاوي.. يقول.. «يجب ألّا نغفل عن موضوع هام، وهو ذكر خطأ الأمير الذي لا يمكن تجنبه بصعوبة، إلا إذا كان على درجة عالية من الحكمة أو لم يسيء الاختيار، وهو الموضوع المتعلق بالمتملقين الذين يمتلئ بهم كل بلاط، فالناس يسعدون بما يخصهم، وينخدعون بالتملق، لدرجة أنهم لا يستطيعون تجنب هذا الطاعون إلا بصعوبة بالغة..» وفي مكان آخر يقول ميكافيلّي، وكأني به يقصد دائرة الانتفاع والانتهاز حول أمير قطر.. «..مَنْ يريد الخير لن ينعم أبداً، إذا كان حوله الكثير من الأشرار..».الملكيات العقارية لأصحاب دكاكين ومحال تجارية كانت قبل أسابيع موضع تداول إعلامي عندما أجبر أحد المسؤولين الكبار في الحكومة القطرية هؤلاء التجار على إخلاء محالهم.. هذه الواقعة لها صداها في كتاب الأمير يقول ميكافيلّي عن «لورنزو» أو عن شخصية الأمير بشكل عام إنه عليه «..الامتناع عن الاستيلاء على أملاك غيره، لأن الإنسان قد ينسى موت أبيه بسهولة عن نسيانه لضياع ميراثه، كما أنه لا حاجة للأمير أن يوجد الذرائع لاغتصاب ملكيات الغير..». أساليب حقيرة لا نعرف كيف وصل «لورنزو» إلى كرسي الحكم في «مديشي».. ولكن «ميكافيلّي» يرى أن الوصول إلى الإمارة إما لحسن الطالع أو «لاستخدام القدرات» في حين أن أمير قطر لم يكن في حاجة إلى عرّاب مثل هذا الفيلسوف «الميكافيلّي».. الذي يقول.. «..بما أنه لا تزال هناك طريقتان للوصول إلى الإمارة دون الحاجة لحسن الطالع أو استخدام القدرات، ولا ينبغي أن نهمل هاتين الطريقتين. إن إحدى الطريقتين يمكن مناقشتها بتعمق لو أننا نتحدث عن الجمهوريات، وهذا عندما يحصل فرد من علية القوم على مركز الإمارة باستخدام أساليب حقيرة مشينة». مكر.. كذب .. خداع يركز ميكافيلّي على أمرين: «حسن الطالع» و«استخدام القدرات» فبأي منهما وصل «لورنزو» إلى رأس «مديشي» ووصل تميم إلى رأس الدوحة.. يقول ميكافيلّي.. «نصل الآن إلى الحالة التي يصبح فيها المواطن أميراً بناءً على رغبة أقرانه من المواطنين، وليس بالجريمة أو العنف الذي لا يحتمل، وقد يسمى هذا النوع بالإمارة المدنية، وهو نوع لا يمكن الوصول إليه لا بحسن الطالع، ولا بالقدرات، ولكنه يعتمد فقط على مكر يسانده حسن الطالع». يتساءل «ميكافيلّي» هل الأمير قادر على أن يحمي نفسه بمفرده عند الحاجة أم أنه في حاجة لحماية غيره دائماً؟؟ ترى هل هذا السؤال أو التساؤل موجه إلى أمير «مديشي».. أم إلى أمير قطر؟؟ وفي الحالين يحيلنا «السؤال - التساؤل» إلى العبث الوجودي والنفسي الذي ينشره المرتزقة دائماً في كل مكان وزمان.. العبث واللّاجدوى والرعب والقلق والمرض الذي ينشره الانتفاعي الانتهازي الذي يبرر وسيلته ويبرر أيضاً غايته بألف حجة وحجة.. وهو يعرف أنه كاذب.. يكذب على نفسه، وعلى شعبه.. وعلى بلاده.
مشاركة :