--> إن مسألة إعفاء اللحية من المسائل التي لم تكن تذكر عند أهل العلم إلا في هامش كتب الفقه، ولا يعلم أن أحداً ناظر عليها إلا في عصرنا الحاضر، بولغ في الوعظ والفتيا فيها حتى ظهرت وكأنها من المسائل العظام في الفقه، وتعصب البعض ففسق وضلل وعد من يأخذ من لحيته عاصياً، ومن يحلقها فاسقاً مرتكباً لكبيرة لا تجوز الصلاة خلفه مع أن القول بتحريم الأخذ من اللحية مطلقاً لم يقل به أحد من السلف. وأصح ما جاء فيها حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله: أَحفوا الشوارب وأعفوا اللحى. والإعفاء في اللغة ليس بمعنى الترك المطلق فقط بل هو مشترك لفظي يأتي بمعنى الترك وبمعنى التكثير وبغيره والتخفيف منها فلا يعارض الحديث، وقد فهم السلف أن المقصود من الاعفاء تكثير اللحية، وأجازوا أخذ ما زاد على القبضة منها. وهذا رأي راوي حديث الأمر بإعفاء اللحية ابن عمر وأبو هريرة حيث روي عنهما الأخذ من اللحية دون القبضة، وهما من فقهاء الصحابة وكلاهما حجة في اللغة وجعل ابن الأثير الإعفاء بمعنى التكثير وألا تقص كالشارب، وليس بمعنى الترك المطلق. ولا يعرف أن أحداً من السلف فهم حديث الأمر بإعفاء اللحى بمعنى الترك المطلق، بل فهموه بمعنى التكثير، والسلف أعلم باللغة وإجازتهم أخذ ما زاد على القبضة معين بأن المراد بالأمر التكثير. فتفسير الإعفاء بالتكثير ليس معنى منتحلاً في كتب اللغة وليس قولا ضعيفا عند أهل الفقه، وفي فهم السلف، بل المنقول عن كثير من العلماء ذم طول اللحية المطلق، وهذا يدل على أنهم يرون التقصير. قال محمد بن الحسن أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم عن ابن عمر: أنه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. وفي التمهيد: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا بأس أن يؤخذ ما تطايل من اللحية وشذ. فقيل لمالك: فإذا طالت جداً؟ فإن من اللحى ما تطول. قال: أرى أن يؤخذ منها وتقصر. وقال الخلال من الحنابلة: أخبرني حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية فقال: إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه. قلت له: ما الإعفاء؟ قال: يُروى عن النبي قال: كأن هذا عنده الإعفاء. وقال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدثهم قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى؟ قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. ورأيت أبا عبدالله (أحمد) يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. وذكر الشافعي استحباب الأخذ من اللحية داخل النسك، وسكت عن ذلك خارج النسك فلم ينص على كراهته. وهذا رأي راوي حديث الأمر بإعفاء اللحية ابن عمر وأبي هريرة حيث روي عنهما الأخذ من اللحية دون القبضة، وهما من فقهاء الصحابة وكلاهما حجة في اللغة. ولا يُعلم أحدٌ من الصحابة أنكر عليهما، مما يعني أن الأخذ من اللحية سائغٌ متعارف عليه، بل قد نقل اتفاقهم على جوازه. وابن عمر مشهور بشدة حرصه على اتباع النبي حتى فيما لم يُؤمر به، وتبين أن فقهاء الإسلام بما فيهم يحتجون بفعل ابن عمر ويعتبرونه موضحاً للحديث. ويؤكد صحة ذلك تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم)، قال: التفث: الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار واللحية. أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وهكذا روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرضي وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يأخذون من جوانب اللحية، وكل ذلك صحيح وقد جاء غير مقيد بنسك. وحكى عطاء بن أبي رباح عن عدد من الصحابة، قال: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة. أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وثبوته في النسك دليل جوازه مطلقا إذ النسك غير مؤثر.. وللكلام تتمة. ahmadq84@hotmail.com مقالات سابقة: د. أحمد قاسم الغامدي القراءات: 162
مشاركة :