سخر مسؤولون ومواطنون من مختلف أنحاء الخليج العربي أمس من الحملة الشعواء التي شنتها آلاف الحسابات الوهمية الممولة من قطر بالاعتماد على المزاعم التي نشرتها صحيفة الواشنطن بوست بحق دولة الإمارات. وفي الوقت الذي سعت فيه قطر ومنصاتها الإعلامية وعلى رأسها قناة الجزيرة، وعشرات المواقع الإعلامية الأخرى الممولة منها إلى استغلال هذه الفرصة لتخفيف الضغوط على الدوحة التي ثبتت عليها تهم زعزعة استقرار دول الجوار ودعم الإرهاب والجماعات المتطرفة والإرهابية، أثبتت ردود فعل المواطنين في مختلف أنحاء الخليج وعيهم للأبعاد التخريبية لسياسات تنظيم الحمدين في قطر، وتشكيكهم في صحة تقرير الواشنطن بوست حول تعرض موقع وكالة الأنباء القطرية للاختراق، إلى جانب تركيزهم على الدور الإيجابي المحوري الذي لعبته دولة الإمارات في دعم استقرار وأمن المنطقة والعالم. وكان المحور الرئيسي الذي تناوله الناشطون على وسائل الإعلام الاجتماعي في الخليج يتمحور حول أنه ما دامت وكالة الأنباء القطرية قد تعرضت للاختراق، فلماذا لم يخرج أمير قطر تميم بن حمد حتى الآن ليؤكد وقوف قطر إلى جانب أشقائها في مجلس التعاون الخليجي، ومعاداته لأعدائهم. وما دامت الوكالة القطرية قد تعرضت للاختراق فلماذا نجد أن كل ما نسب في كلمة تميم في حفل التخريج (التي زعمت الدوحة أنها غير صحيحة) ينطبق على السياسة القطرية السائدة، بدءاً من العلاقات الوثيقة مع إيران، والوقوف إلى جانب احتضان ودعم الجماعات الإرهابية مثل الإخوان وحزب الله. أكاذيب وفي غضون ذلك شكك تقرير نشره موقع «24» بصحة المزاعم التي أوردتها صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، عن اختراق وكالة الأنباء القطرية، ومواقع حكومية أخرى في الدوحة. وقال التقرير إن هذه الصحيفة التي تعيش على أمجاد ماضية تعاني منذ سنوات من الكثير من الهنات والسقطات الظاهرة والخفية، مع تورطها بنشر الأخبار الكاذبة، حتى قبل وصول دونالد ترامب، إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة. توازن ويرتبط تقرير «واشنطن بوست» بما يعرف بـ «توازن الرعب» بين فروع الإدارة الأميركية، ومناورات الأجهزة التنفيذية المختلفة، من خارجية، ودفاع، وأمن قومي، وإف بي أي، وسي أي أيه، وغيرها. وفي هذا السياق قالت صحيفة لاستامبا الإيطالية، أمس، تعليقاً على الاختراق المزعوم «إن وصول تسريبات من وكالة المخابرات إلى واشنطن بوست ليس صدفة على الإطلاق، بل هي محاولة للالتفاف على جهود الدول المقاطعة لقطر، ومحاولة لإفشال استراتيجيتها». وعلى هذا الأساس يأتي تقرير الصحيفة القريبة من وزارة الخارجية بشهادة خبراء أميركيين، ليضيف إلى الغموض غموضاً أكبر، ويطرح أسئلة أكثر من تقديم أجوبة مقنعة، أو أدلة يُمكن الاستناد إليها والوثوق بها. ويكفي النظر إلى التقرير المنشور على أعمدة الصحيفة عن الاختراق الإماراتي المزعوم للمواقع القطرية، وإلى واضعيه، لتزيد الصورة غموضاً وتعقيداً، وتبتعد الحقيقة التي هللت لها مواقع وتقارير إخوانية وقطرية كثيرة منذ نشر التقرير الصحافي المزور. العربة والحصان ومنذ البداية، يضع التقرير العربة أمام الحصان، في عملية استخلاص ذاتية، للحقائق والوقائع، في البداية الاتهام استناداً إلى مصادر من المخابرات الأميركية، وذلك في الوقت الذي يُشير التقرير الإيطالي مثلاً إلى دور الخارجية في تحريك التسريب الاستخباراتي بناءً على سابق معرفة بارتباط المخابرات الأميركية بوزارة الخارجية أولاً، وبدور الوزير الحالي تيلرسون المثير في الأزمة الخليجية، حتى لكأنه تحول إلى وزير خارجية الظل أو المعارض، وليس الوزير الذي يُنفذ سياسة أو يتحدث باسم رئيسه دونالد ترامب، ولكن المثير في التقرير المستند إلى مصادر من المخابرات، قاموسه ومصطلحاته المثيرة «يبدو أن» و«لم يتضح بعد إذا ما كان» و«لا يُعرف على وجه الدقة إذا ما». وباستثناء المقدمة المباشرة التي تتهم الإمارات بالاختراق، لا يبقى في التقرير الذي جاء في حوالي 1800 كلمة، سوى 49 كلمة هي مجمل ما قالت الصحيفة في مقدمتها لتسوق اتهامها، وذلك رغم رفض كل الجهات التي عادت لها الصحيفة الخوض في مثل هذا الاتهام بشكل رسمي ومسؤول، كما يُفترض في المصادر المسؤولة والرسمية، من وزارة الخارجية، إلى المخابرات الأميركية، إلى وزارة الأمن القومي، إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، إلى غيرها من الوكالات والأجهزة المعنية بشؤون التجسس وتحليل المعلومات. مراهقات ويقتصر التقرير تقريباً على استطرادات طويلة، وربط غير سلس في أكثر من مناسبة وموقع، بين الإمارات والاختراقات المزعومة، التي حولت قطر إلى ما يُشبه الغربال أو قطعة جبن سويسري من صنف غرويير، بسبب عددها وكثرتها، وأهميتها. ويطرح التقرير الأخير للصحيفة الأميركية، أسئلة حول مصداقيته والهدف منه، أكثر مما يدعيه التقرير وواضعوه من حقائق صحافية أو انفرادات، بما أن قطر نفسها التي ادعت التحقيق في الاختراقات بمشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي أيه)، توقفت جرأتها عند اتهام «دول مجاورة بالمسؤولية عن الاختراقات التي تعرضت لها مواقع حكومية رسمية، بواسطة أجهزة آي فون»، أما مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي انتقل فريق منه إلى الدوحة، فقدوا القدرة على «تسريب المعلومات» التي توصلوا لها بعد تحقيقاتهم السرية والعلنية عن الهجوم الإلكتروني، وتخلوا عن المهمة لزملائهم في «سي آي أيه» ووكالات الظل الأخرى، التي تطوعت لوضع الصحيفة في صورة الأحداث وفق رؤيتهم الخاصة! وللوقوف على جدية هذا التقرير يكفي العودة إلى ما جاء فيه، من قبيل «تخصيص اجتماع حكومي للنظر في تنفيذ هجوم إلكتروني على قطر» قبل يوم واحد من «الاختراق» في تحرك لا يختلف كثيراً عن اجتماع مجموعة من المراهقين مساء خميس لاختراق كمبيوتر الجارة الساكنة في البيت المجاور لبيت زعيم «الشلة». عصابة الأربعة ويضيف تقرير موقع «24» بقوله: لكن تقرير واشنطن بوست لا يقتصر على ما جاء فيه من «معلومات مُثيرة، أو حقائق» كما يوحي بذلك أصحابه الأربعة الذين اشتركوا في وضعه، في جهد لا يختلف كثيراً عن جهود أعتى وأشرس المحللين في العالم، فالاتهامات باختراق المواقع القطرية، مسألة فيها من الخطورة بمكان، ما فرض اشتراك أربعة صحافيين في تجيير «الاتهامات» وبناء التقرير، صحافيون لا يشق لهم غبار، مثل كارن دي يونغ، وإلين ناكاشيما، وكريم فهيم من إسطنبول التركية، وكارول موريلو. وبالنظر إلى «عصبة الأربعة» هذه، فإن أي متابع عادي أو قارئ لهذا التقرير، لا بد أن يدفعه الفضول إلى محاولة التعرف إلى خلفية محرري المقال، من باب العلم بالشيء، وبعد نقرات قليلة، فإن حقائق أخرى مُثيرة للاهتمام إذا لم نقل مدهشة، ستفرض نفسها على القارئ قبل المحلل، من ذلك مثلاً أن كارين دي يونغ فائزة بجائزة بوليتزر المرموقة للصحافة الأميركية، واحدة من المتهمات بالتنظير لامتلاك العراق سابقاً أسلحة الدمار الشامل، رغم تأكيدها لاحقاً أنها مُنعت من قبل الصحيفة التي تعمل فيها منذ ثلاثة عقود ولا تزال، من نشر وثائق تُفند بحث العراق عن الحصول على مواد مشعة من النيجر قبل الغزو الأميركي، الذي نظر له بخطابه الشهير في مجلس الأمن وزير الخارجية السابق الجنرال كولن باول، الذي وضعت دي يونغ أهم كتاب وربما الكتاب الوحيد، الذي روى سيرته وقصة تألقه العسكري والسياسي في كتابها الذي جاء بعنوان «جندي: حياة كولن باول». ولكن المهم في مسيرة دي يونغ، خاصةً في الأسابيع الأخيرة مواقفها أثناء الأزمة الخليجية، والاتهامات الموجهة لقطر، ودفاعها الضمني عن قطر منذ اندلاع الأزمة وإعلان قرار المقاطعة، عن طريق تقارير لم تثبت صحتها أبداً مثل «تهديد نيابي أميركي بحظر بيع الأسلحة الأميركية إلى الدول المقاطعة لقطر» أو «تهديد الولايات المتحدة للدول المقاطعة لقطر» أو غيرها من المواقف التي أعربت فيها عن «قربها» من الوزير تيلرسون ووزارة الخارجية الأميركية بشكل خاص. أما القلم الثاني الذي حبر التقرير فهو أكثر إثارة وأهمية، وهي الصحافية المتخصصة في الشؤون الأمنية والاستخباراتية في الصحيفة، إلين كاشيما، المحررة في الواشنطن بوست، التي برزت بعشرات المقالات المتهمة بنشر «سلسلة الأخبار الكاذبة» عن ترامب، وعن روسيا، وقبلهما عن أوباما، والتي اعتذرت في مناسبات كثيرة الصحيفة عن نشرها، وأهملت التراجع في عشرات المناسبات الأخرى، والتي اعتبرها روبرت باري نموذجاً لصناعة الأخبار الكاذبة، بحثاً عن مجد ضائع للصحيفة. أما الاسم الثالث المُثير للاهتمام فهو بلا شك في هذا التقرير فهو كارول موريلو، المسؤولة أو المراسلة المتخصصة في العلاقات الدولية، والشؤون الخارجية للصحيفة، والمكلفة بتغطية أخبار وأنشطة وزارة الخارجية الأميركية، ليتأكد مرة أخرى بذلك مسار التسريب الاستخباراتي ومصدره، باعتباره من محيط ريكس تيلرسون نفسه، وليس من لانغلي مقر المخابرات الأميركية. خط تركي أما المساهم الرابع فهو الصحافي كريم فهيم، مراسل الصحيفة من تركيا، ومدير مكتبها منذ 2016 في إسطنبول، والذي يقتصر نشاطه في الأسابيع الأخيرة على تغطية أخبار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكلماته القاسية والمتحدية، من جهة والداعمة لقطر والمستفزة لجيرانها الخليجيين. وحسب بعض التقارير التي نشرها الصحافي الأميركي من تركيا، فإن مداخله وعلاقاته بالدوائر التركية المسؤولة تسمح له بالحصول على ما يكفي من «معلومات» أو تسريبات خاصةً في ظل الاتهامات التركية الأخيرة لدول الخليج بالتدخل في شؤون قطر، وترويج بعض المسؤولين لنظرية المؤامرة على قطر. إن النظر إلى المعلومات الواردة في التقرير، وهوية واضعيه، إلى جانب توضيح السياق الذي تعمل ضمنه صحيفة «واشنطن بوست»، كفيل بكشف ما تُطلق عليه الصحيفة نفسها، وتنظر له بعنوان صحافة «ما بعد الحقيقة» والذي يُسميه خبراء الصحافة الأميركيون «فيك نيوز». ظاهرة لتأطير وتحديد المسار العام الذي انتشرت فيه ظاهرة الأخبار الكاذبة في الواشنطن بوست وبعض الصحف الأميركية الأخرى، ومسار نموها، وتوظيفها، والغاية منها ومن صناعتها، لا يُمكن التغاضي عن تحاليل وآراء أحد أبرز الصحافيين الأميركيين المعاصرين، وأخطرهم على الإطلاق، روبرت باري، الصحافي أو «الذئب» المنفرد الذي فجر عشرات الملفات والقضايا التي عصفت بالإدارات الأميركية ومراكز القوى الكبرى في الولايات المتحدة على امتداد الثمانينات من القرن الماضي، مثل فضيحة تمويل «الكونترا» في نيكاراغوا، وفضيحة «إيران غيت»، وتسليح طهران عن طريق تجارة المخدرات في أميركا الجنوبية برعاية وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وقبلها فضيحة تأخير إطلاق سراح الرهائن في إيران، لضمان فوز رونالد ريغان بالرئاسة وغيرها من القضايا الكبرى. ويُلخص باري عقيدة «واشنطن بوست» الجديدة، واصفاً إياها بـ «الوضيعة» وهي التي لا تتردد في التشهير والإساءة إلى شخصيات وطنية كثيرة، لا تُشاركها مواقفها الأيديولوجية أو الإعلامية والسياسية. ولكن الحديث عن واشنطن بوست، وهي الصحيفة الكبرى في أميركا، لا يستقيم إطلاقاً إذا تغاضينا عن دور وموقع الصحف الكبرى مثل «نيويورك تايمز»، وغيرها من رقعة الشطرنج الحقيقية التي تمثلها توازن القوى داخل واشنطن، خاصةً بين المراكز الخطيرة الثلاثة، البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والمخابرات المركزية الأميركية (سي آي أيه) في لانغلي. ومثل صحف أميركية أخرى كثيرة، بعضها انقرض وبعضها يُجاهد للبقاء، ترتبط «واشنطن بوست» منذ عشرات السنين بوزارة الخارجية الأميركية.
مشاركة :