الفتاوى.. تصريف فائض الضرورة الوهمية تحت الأرض بقلم: سعد القرش

  • 7/19/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الفيضان من الفتاوى يحتاج إلى أعمار لقراءته التي تدخل المسلم في إشكاليات يخرج منها فيتوه في إشكاليات أخرى يمكن أن يحسمها حديث أنتم أعلم بشؤون دنياكم.العرب سعد القرش [نُشر في 2017/07/19، العدد: 10696، ص(13)]فوضى الفتاوى حجبت يسر الإسلام في غياب التلفزيون قبل وصول الكهرباء إلى القرى البعيدة، في بدايات السبعينات، اعتادت الإذاعة تقديم "فوازير رمضان" ومسلسل كوميدي لفؤاد المهندس وشويكار. الشهر الكريم ذو الصلة الروحية الشَّرطية بقرآن المغرب والأذان بصوت الشيخ الجليل محمد رفعت لم نتخيله من دون تلك التسلية، وقد صارت ضرورة نفسية تحظى بشبه إجماع شعبي، حتى يستطيع السائر في الشارع متابعة أحداث المسلسل عبر أجهزة راديو تتجاوز أصواتها العالية أبواب البيوت، فتشعل الفضاء الصامت وقت الإفطار الذي ارتبط في فترة تالية بفوازير التلفزيون، ثم أمست بالاعتياد ضرورة رمضانية مع المسلسل الديني التاريخي "لا إله إلا الله". اختفى المسلسل والفوازير وغيرهما من ضرورات رمضان الوهمية، مع اختفاء البساطة في المعاملات والعبادات، ليأتي بعد الدين السمح عُسر فقهي ألهى الناس بتفاصيل التفاصيل، فأصبحوا أسرى شكوك وفتاوى وفتاوى مضادة تستهلك أوقاتهم وأعصابهم، وتغرقهم في قضايا لم تشغلهم من قبل، وكان إسلامهم يصح بغير الحاجة إلى الاعتقاد بضرورتها. الطيبون الذين كانوا يشمّرون عن سواعدهم وسيقانهم رجالا ونساء جنبا إلى جنب، في ساعات الشغل من دون خجل أو ادعاء النفاق الديني، ثم يتوضأون للصلاة، سيفاجأون بفتاوى تحرم شيئا اسمه "الاختلاط". ولن يبالوا بردود دار الإفتاء المصرية عن هذه الأسئلة: هل أمر الدين بفصل الرجال عن السيدات يوم عقد القران الذي يتم في المسجد؟ وما حكم تلقّي النساء للدرس من إمام المسجد دون حائل؟ وهل يجوز عمل النساء مع الرجال في مكان واحد؟ وبعد اهتمام عمرو خالد- الذي يعرّف نفسه في موقعه الإلكتروني بأنه داعية ومفكر إسلامي ومصلح اجتماعي ومؤلف- بدعوة الشباب إلى زراعة أسطح البيوت، وتعليم الكمبيوتر لأمهاتهم، وتقوية إرادتهم بالمشي ستة كيلومترات يوميا، جاء مصطفى حسني مؤرقا بجسد المرأة، فيخاطبها بليونة وسهْوكة "مفاتنك حلوة"، ويتأسى بسلفه عمرو في العناية بشعره المستعار، وليذهب حديث وصل الشعر ولو رواه البخاري إلى الجحيم. أخلص مصطفى حسني لميراث من يمتهنون دعوة المسلمين إلى الإسلام ومسّهم الهوس بجسد المرأة، وافتتنوا به افتتانا غير آدمي وغير صحي، فلا يرون فيه معجزة الله الذي خلق فسوى، وإنما يستقطرون اللذة بكلام ظاهره النواهي تعويضا عما اعتبره سيغموند فرويد شهوات مكبوتة. حسني يحمّل غير المحجبات مسؤولية التحرش بهن، ويتهم أغلب المحجبات بعدم الالتزام بما يسميه "الحجاب الشرعي". وتغريه شهوة الكاميرا والميكروفون بفتاوى مجانية تراكم حصيلة الإعلانات، فيستغرق في نهي النساء عن ارتداء البنطلون، ويحذر من ظهور جزء من الرقبة؛ لأنها إغراء يفتن الرجال الذين تثيرهم أيضا الملابس الزهرية ولو كانت فضفاضة.تنتعش سوق الفتوى فتمنح يقينا لجمهور يعاني الفراغ، واستعصاء التحقق، وخيبات أمل متوالية، ويجد عزاء في هذه النماذج: ما حكم تسمية ليلة النصف من شعبان بليلة البراءة؟ يسهل أن ترى المتنطعين يتهم بعضهم بعضا، ويفرح كلٌ بحزبه من التابعين البسطاء، أو المتابعين في وسائل التواصل الإلكترونية من أبناء الذين أدركوا فوازير رمضان ومسلسل «لا إله إلا الله". فالمسكين أبوإسلام أحمد عبدالله يعنيه الاحتفاظ بسلفييه التقليديين، بالطعن في منافسين يراهم جزءا "من الخطة الصهيونية الصليبية العالمية" التي تستهدف تحويل "علماء الأمة إلى مسخ علماء، كما فعلوا مع عمرو خالد. مسخ الشيوخ ليكون شكلهم هو شكل عمرو خالد". وكان أول شيخ "مودرن" ضمن المنظومة "الإرهابية الجبروتية الخائنة للإسلام" هو محمود حمدي زقزوق؛ لنزوله ضيفا على الفاتيكان مرتديا البدلة، أما أول "شيخ ناعم" فهو عمرو خالد ومصطفى حسني ومعز مسعود. لا يملك أبوإسلام أو أي شيخ تسبق اسمَه كنية "أبو كذا" دليلا على اتهام أي "شيخ ناعم" بالعمالة، ربما في إشارة إلى صمت أحدهم عما نشر عن تلقيه 47 مليون جنيه إسترليني من الخارجية البريطانية، لدعم جمعية أهلية صارت عنوانا لبرنامجه التلفزيوني. هذه صناعة يُغرى باستهلاكها الجمهور، بابتداع وسائل إقناع تنقلها من الفضول إلى الضرورة. والصبية تغويهم الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، والتقليديون يفرحون بجمهورهم الأميّ في ظل بلوغ نسبة الأمية بمصر 30 بالمئة، وفي هذا التنافس على حيازة مساحة واكتساب جمهور بحثت دار الإفتاء لفائض الفتاوى عن مسارات جديدة، حكومية لا يقربها الهواة أو التقليديون، فكان مترو الأنفاق. من يتابع الفتاوى الرسمية في الصحف وإذاعة القرآن وموقع دار الإفتاء، ربما يرتاب ويتساءل: هل أنزل دين بعد الإسلام اليسر الذي حثنا رسوله أن نوغل فيه برفق؟ هذا الفيضان من الفتاوى يحتاج إلى أعمار لقراءته التي تدخل المسلم في إشكاليات يخرج منها فيتوه في إشكاليات أخرى يمكن أن يحسمها حديث "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، حديث كاف لتقويض مهنة الإفتاء التي تنشغل بهذه القضايا: هل يجوز للرجال لبس الساعة ذات العقارب الذهبية؟ ما حكم بيع الشقق السكنية بالتقسيط؟ هل يجوز حلق اللحية وأخذ الوجه بالفتلة لمن يعمل حلاقا؟ ما حكم أكل الجمبري عند الحنفية؟ هل يكون إلقاء السلام على الجالسين في المسجد قبل تحية المسجد أم بعد الفراغ منها؟ هل يجوز العمل في بلاد غير المسلمين؟ ما حكم الاكتساب من مقاهي الإنترنت؟ هل يجوز سفر أستاذة بكلية الطب فوق الخامسة والأربعين دون محرم لحضور المؤتمرات؟ قضايا تجاوزها الواقع، وتذكّرنا بمجامع لغوية تتلكأ في إقرار كلمة دخيلة صار لها نسل من الاشتقاقات. تنتعش سوق الفتوى فتمنح يقينا لجمهور يعاني الفراغ، واستعصاء التحقق، وخيبات أمل متوالية، ويجد عزاء في هذه النماذج: ما حكم تسمية ليلة النصف من شعبان بليلة البراءة؟ ما الفرق بين رفع الأعمال في شعبان وبين رفعها الاثنين والخميس؟ هل تجوز قراءة الفاتحة عند عقد الزواج؟ ما حكم الشرع في الزواج من أجنبية؟ ما الصيغة المستحبة للتهنئة بالزواج؟ ما حدود استمتاع الرجل بزوجته؟ هل يفسد الاعتكاف أن أقبّل زوجتي إن ذهبت لمنزلي أثناء الاعتكاف لحاجة؟ ما حكم تأجير عقار لبنك؟ ما حكم التجارة في جوزة الطيب؟ حفر هذا السيل مجرى عميقا انتهى إلى مترو الأنفاق بالقاهرة حيث تجهز مقار للفتوى، للرد على أسئلة الحيارى، كما تبث إذاعة المترو خطبا "دعوية" تلقى من مركز التشغيل الخاص بمراقبة الحركة، وتأمين ركاب يريدون المترو وسيلة نقل لا دار إفتاء متحركة. ولكن برنامج الإلهاء الحكومي- الأزهري لا يتوقف، ويستخدم وعاظا ومساجد لا تخلو منها محطة للمترو، وهو اعتداء طائفي على مجال عمومي ملك لكافة "المواطنين"، وهذه قضية أخرى. روائي مصري

مشاركة :