تختلف أدبيات العمل الناظمة لتناول الموظفين طعام الغداء أثناء استراحة الظهيرة، فبعضها يتساهل في وضع الضوابط لها كأن يأكل الموظف ويشرب علناً متى يشاء ومن دون حسيب أو رقيب، وبعضها الآخر، كما في كندا مثلاً، يحظّر القانون تناولها خلال أداء الوظيفة سواء كان العامل رئيساً أو مرؤوساً. وفي الوقت ذاته يمنحه الحق بالراحة في فترات محددة: 10 دقائق بعد كل ساعتي عمل قبل الظهر وبعده و60 دقيقة للغداء. كما يلزم القانون مؤسسات العمل أن تخصص لمستخدميها صالات مجهّزة لتبريد الطعام أو تسخينه وأصنافاً من المعجّنات والمرطبات والقهوة. ويحرص موظفون «بيتوتيون» على إحضار ما تيسّر من الوجبات المنزلية التي يطئمن لأصلها وفصلها، وتلبّي حاجته ورغبته وشهيته، سيما إذا كانت من صنع زوجته أو أمه. فيما يكتفي آخرون بنوع معيّن من المعلّبات أو شرائح البيتزا أو السندويشات الباردة، وإن تدنّت قيمته الغذائية. وهؤلاء عادة هم من موظفي الدخل المحدود. منتدى اجتماعي بعد أن يفرغ الجميع من تناول وجباتهم، تتحول صالة الطعام إلى ما يشبه النادي الاجتماعي – الثقافي المتعدد الأعراق والألوان واللغات واللهجات، على مثال المجتمع الكندي الغني بتنوّعه وتعدده الى حد بعيد. ويدور الحوار والنقاش ثنائياً تارة وبين أشخاص عدة طوراً حول مختلف الشؤون اليومية من أحوال الطقس والجرائم إلى حوادث السير والضرائب ورياضة الهوكي على الجليد، علماً أنه قلما يتناول أحدهم مسألة تمس الشأن الدولي أو تتطرّق إلى قضايا عربية وإسلامية متداولة حالياً بوفرة في وسائل الإعلام الكندية. وخلال تناول الطعام تتكشّف مظاهر الاختلاف في عادات المائدة وتقاليدها. فالكندي مثلاً لا يدعو زميله إلى مشاركته الغداء، فيما يبدي استجابة فورية إذا ما عرض عليه زميل غير كندي تذوّق طعامه لا سيما إذا كان لبناياً، فيعبّر عن إعجاب شديد بإعداده، ويهمهم في إشارة إلى الاستمتاع به وأنه «طيب ولذيذ». ويسترسل في طرح الأسئلة عن اسم الوجبة ومكوناتها والمطاعم التي تقدّمها، مشيدًا بجودة المطبخ اللبناني وغنى مأكولاته وتنوّعها ومواصفاتها الصحية. إلا أن هذه العلاقات في العمل وأن تخللها أحياناً «خبز وملح» ولقاءات يومية وتعاون مهني، غالباً ما تنتهي عند حدود تبادل التحيات والتعارف الموقت، ونادراً ما تؤسس لصداقة دائمة. جرس الاستراحة يحرص الموظفون الكنديون على استهلاك كامل وقتهم المحدد قانوناً من دون زيادة أو نقصان. فإذا قرع جرس الاستراحة أو إذا أعلن المسؤول مثلاً عن بدء ساعة الغداء، يترك الجميع مكاتبهم وأوراقهم وأقلامهم كما هي على الطاولة، لدرجة انهم يمتنعون عن اكمال كتابة حرف أو كلمة أو عبارة مهما كانت صغيرة. وإذا ما واظب احدهم (غالباً يكون موظفاً جديداً) على متابعة العمل، ولو لثوانٍ معدودة، ترتفع أصوات زملائه ويصرخون: «كفى... كفى إنه وقت الغداء. أترك كل شيء على ما هو عليه». ويتولّى أحد زملائه شرح الأمر، بقوله: «إن سر إلحاحنا عليك هو الحرص على كامل حقك بالوقت المخصص لك، وإن التخلّي عن جزء منه ليس خدمة للمؤسسة أو لأي شخص آخر، وإنما هو جهل بقوانين العمل وأنظمته».
مشاركة :