قراءة المشهد السياسي اليمني الحالي بشكل سليم، أصبحت أمراً صعباً في الحالة الراهنة، على الرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة السياسية وما تلاها من تطورات، أهمها -بعد التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وإجراء الانتخابات الرئاسية، وانتقال السلطة سلميّاً- انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، ثم الحرب على القاعدة، ومحاولات الانقلاب على مخرجات الحوار من قِبل بعض الأطراف الرئيسية المشاركة في الحوار، من خلال تأزيم الأوضاع والعودة بالبلاد إلى المربع الأول لأزمة 2011، وإشعال الحروب في أكثر من منطقة بالقرب من العاصمة صنعاء، فالأحداث تتحرك بسرعة وبصورة أكثر تعقيداً من سابقاتها، متجاوزة كافة التوقعات والثوابت والخطوط الحمراء الضابطة للعبة السياسية، التي يصعب التنبؤ أو استقراء مآلاتها ونتائجها بشكل صحيح، في ظل بيئة اجتماعية سياسية مضطربة عصية المراس سريعة التبدّل في مواقفها وولاءاتها وتحالفاتها ووسائلها العملية، مشرعة أبوابها أمام مختلف التدخلات الخارجية، ويتقلص فيها -إلى حد كبير- هامش المناورات السياسية الرامية وضع البلد في المسارات الصحيحة للإصلاح والتغيير بوسائل سلمية ديمقراطية قادرة على إنتاج الحلول الممكنة لإشكالات الواقع. فاليمن مثل غيره من بلدان ما سُمّي بالربيع العربي تعرّض إلى أزمات وإشكالات واضطرابات صاحبتها هزات اجتماعية سياسية عميقة، خرجت خلالها -محاكاة لما جرى في تونس ومصر- قطاعات من الشباب إلى الساحات معبِّرة عن رفضها للواقع ومتطلعة للتغيير نحو الأفضل وانتشال الواقع من تحت ركام الأزمات والعجز عن إيجاد البدائل والمعالجات التي يطالب بها الجميع داخل السلطة وخارجها.. هذه القطاعات الشبابية الساخطة على أوضاعها المثقلة باليأس والمشبّعة بالشعارات الصِدَامية، خرجت مطالبة بتغيير النظام، ولم تكن معدّة ومهيأة ذاتيّاً بما فيه الكفاية لإنتاج آلياتها الثورية السلمية وبرامجها السياسية والنضالية الخاصة بها، فأعادت إنتاج شعارات الشباب في تونس ومصر، وكانت عاجزة عن إدراك ماذا يتوجب عليها عمله لتحقيق ذلك في الواقع، ولم تمتلك رؤى وبرامج واضحة لتحقيق تطلعاتها في التغيير وما بعد التغيير؛ الأمر الذي جعل من هذه الهبّة المندفعة تتسم بالعفوية حيناً والمسيّسة حزبيّاً حيناً آخر، في ظل بيئة رخوة نجحت في اختراقها بعض قوى الفساد والنفوذ السياسية والقبلية والعسكرية التي انسلخت عن النظام وانقلبت عليه، وتحالفت مع بعض الأحزاب السياسة المعارضة، وهو ما مكّنها من الاستحواذ على ثورة الشباب، وحشدت العاطلين عن العمل والمتسولين وأضافتهم إلى صفوف المعتصمين، وتمويل استمرار الاعتصامات، مستفيدة من إمكاناتها المادية والعسكرية والدعم السخي من إحدى الدول التي تريد تصفية حسابها مع النظام، لتحتكر لذاتها مسؤولية التغيير الذي ينشده الجميع، وتوظيفه بانتهازية لتحقيق أجندتها الانتقامية الخاصة؛ الأمر الذي أصاب المجتمع والدولة والنظام بتصدعات عميقة لامست كل مفاصل الحياة، من هنا فقد الفعل الثوري السياسي أهميته وأهدافه وأبعاده في إحداث التغيير والإصلاح السلمي الجذري الشامل لمجمل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية، وغدت - ما سُميت بالثورة - في جوهرها العام مجرد انقلاب عسكري سياسي داخل مؤسسة النظام، وبداية عملية لواحدة من أخطر الأزمات الوطنية السياسية والعسكرية، تم خلالها وأد ومصادرة تطلعات الشباب وفعلهم وطاقاتهم لصالح تحالف سياسي عسكري قبلي ديني رأسمالي طفيلي موغل في الفساد اختزل التغيير في تغيير الشخوص والرموز والشرعية بهدف اغتصاب السلطة، والأخطر من ذلك أن هذا التحالف الذي جعل من نفسه ممولاً، ووصيّاً، وشرطيّاً، وإماماً للساحات، وادعى لذاته مهمة صيانة الوطن ووحدة المجتمع وحماية الثورة التي اختزلها ضمن دائرة مصالحه، تحول إلى ديكتاتور وأداة قمع مسلّطة على قوى التغيير الحقيقية وعلى الديمقراطية، وعامل كبح أمام تحقيق أي من تطلعات الشباب.
مشاركة :