توفي يوم الجمعة 12 يونيو 2014م المفكر الكبير وعالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة عن عمر يناهز 81 سنة بعد معاناة مع المرض، وذلك بمدينة الرباط التي ولد بها سنة 1933م، مخلفاً وراءه رصيداً غنياً من الأعمال الجليلة العلمية والفكرية والإنسانية. وكان أول طالب مغربي تابع دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية، وأول حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لندن، وكان موضوعه عن: الوحدة العربية سنة 1957م (لقد هاجرت نحو بلاد الغرب وعمري خمس عشرة سنة، ثم مكثت أربع سنين في إنجلترا حيث أعددت الدكتوراه، واكتسبت خلالها ثقافة عن تاريخ الغربيين، وماضيهم وجغرافيتهم. وهو ما جعلني منفتحاً على جميع الحضارات). فعلاً، فقد تعددت عنده مصادر التكوين، علمية، وأدبية، واجتماعية، واقتصادية، وإعلامية. فكان مفكراً وباحثاً وإعلامياً ومنظراً، وعالماً في المستقبليات، وأستاذاً جامعياً. فكان أول أستاذ مغربي بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط منذ سنة 1957م. (كنت أول مغربي درست في كلية الحقوق (العلوم السياسية والعلاقات الدولية)، ثم مديراً عاماً لدار الإذاعة والتلفزيون المغربية سنة 1960م، كما تقلد مناصب سامية بالمغرب وخارجه، بدءاً بالأمم المتحدة، ومنظمة اليونسكو (1961 - 1976م) -نائب المدير العام-، ونادي روما للعلماء، ثم رئاسة الاتحاد العالمي لمؤسسات الدراسات المستقبلية، عضو منتخب لأكثر من عشرين منظمة علمية ودولية غير حكومية، وعضو أكاديمية المملكة المغربية والأكاديمية الإفريقية للعلوم، شارك في ما يربو عن مئتين وثلاثين ندوة وملتقى دولي حول المستقبل في عواصم أروبا وأمريكا وآسيا والعالم العربي والإسلامي. كما حاضر في العديد من جامعات العالم، حصل على جوائز عالمية وأوسمة شرفية. أفكاره ونظرياته جالت العالم اعتباراً لمداها البعيد وشموليتها، ولغته قوية، وقاموسه مشحون، شفاف. مؤلفاته عديدة ودراساته كثيرة منشورة في مجلات عالمية متخصصة، كما ترجمت كتبه إلى لغات عديدة، أحدث جائزة التواصل الثقافي شمال- جنوب سنة 1991م، وتمنح يوم 17 يناير من كل سنة، عرف بجرأته ومواقفه واجتهاداته. وكان أول من أطلق مقولة (الحرب الحضارية) قبل أن يتبنى هانتجتون مقولته (صراع الحضارات) (أنا وقائي بينما هانتجتون يقول إن الخطر سيأتي من العالم غير اليهودي- المسيحي، وهذا خطاب يستند إلى الدفاع عن النفس ويمكن فهمه على الأمد الطويل ضمن الدراسات المستقبلية... وموقفي المتعلق بالحرب الحضارية ليس موقفاً آنياً فهو نتاج تجربتي الفكرية والميدانية كلها). رغم أنه نهل من ثقافة الغرب الكثير إلا أنه ظل متمسكاً بهويته العربية الإسلامية، فلم ينسلخ عن واقعه ولم يتغرب عن محيطه، عرف بمناهضته للفرانكفونية ودفاعه المستميت عن اللغة العربية والهوية الإسلامية. (أنا ضد الفرنكفونية، وهذا لا يعني أن هناك نزاعاً بين شخص ولغة، لأن هناك فرقاً ما بين لغة -سواء أكانت العربية أم الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية- وبين فهم آخر للغة كالفرنسية مثلاً، عندما نقول الفرانكفونية فليس هناك مثلاً من يتحدث عن الأنجلوفنية، ولو أن اللغة الإنجليزية الآن هي اللغة الأولى على الأقل في المجال الثقافي والحضاري المعاصر، وليس هناك من أحد يتكلم عن (الإسبانوفية) ولو أن اللغة الإسبانية لها دور اليوم في العالم أكثر من الفرنسية، ليس هناك من يتكلم عن (العربوفنية) إلا في المغرب. فموقفي في هذا الميدان موقف واضح، ذلك أن اللغة والحضارة لهما قيمة خاصة، وأنا لست ضد اللغة الفرنسية، فأنا أحترمها كثيراً وأستعملها وأكتب بها وأستمتع بقراءة شعرها وأعمال أدبائها، لدرجة أن أندري مالرو منحني أيامها أكبر وسام للأدب الفرنسي وهو وسام الفنون والآداب... المشكل في سياسة الفرانكوفونية بالنسبة للمغرب العربي وأفريقيا هو أنها تحارب اللغات المحلية، لكي تصبح الفرنسية وسيلة للهيمنة على الأدمغة وعلى الناس. كان فكره حداثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى الحداثة، بدون ابتذال أو قطيعة مفتعلة مع تربته الحضارية، وهو في نفس الوقت فكر أصيل مشدود إلى القيم دون ما انغلاق ماضوي تمجيدي- انتقائي، تجزيئي، يمنع بطبيعته الفكر من استشراف الآفاق الرحبة للمستقبل. واكب تحولات التاريخ المغربي والعربي، كما ناضل في صفوف الحركة الوطنية على قاعدة المبادئ والقيم الإنسانية. إنه كان من أوائل من بوؤوا القيم الحضارية والثقافية دورها الجوهري في الصراع بين الشمال والجنوب، وجاء في تقريره لنادي روما لسنة 1979 الذي حظي بإعجاب دولي كبير، وترجم إلى أكثر من 12 لغة (سيتقوى دور الهوية الثقافية، إن على المستوى الوطني أو الدولي، كموضوع للخلاف داخل المجتمعات وبين بعضها البعض... إننا نواجه صراعاً حقيقياً بين القيم، هناك تسامح لكن لا وجود لقبول صادق لقيم الجنوب، وذلك بسبب انعدام مجهود جدي لفهمها). كثيراً ما كان يدعو إلى ربط العلم والبحث العلمي بالقيم، فجهاده في اليونسكو وغيرها من المنظمات كان منطلقاً دائماً من القيم، سواء في دراسات النموذج الاقتصادي أو غيرها، لأنه لايوجد في نظره خلق وإبداع إلا إذا انطلق الإنسان من الأصول. ويستشهد بما حققه اليابانيون، فكان يرى أن نجاحهم انبنى على شيئين: أولاً: تغلبهم على الأمية في آخر القرن 19، بعد ثورة (الميجي). ثانياً: اهتمامهم بلغتهم، لدرجة أنهم كانوا يترجمون كل شيء إلا اليابانية. إن النجاح الحقيقي في العلم والتكنولوجيا أو الاقتصاد أو تسيير الدولة، لايكون إلا انطلاقاً من الوسائل الخاصة، والاعتماد على النفس، وعلى اللغة والقيم، وهذه كلها في نظره تستند إلى الرصيد الحضاري والذاكرة. كان رحمه الله من مناهضي العولمة، ليس لأنها تجسد وتكرس أشكالاً جديدة من الاستعمار، ومنطق الفكر الواحد والوحيد، ولكن أيضاً لأنها سبيل من سبل إقصاء وتهميش الدول والشعوب والثقافات الأخرى، ما دامت هي قائمة بالأساس على اغتيال الحق في الاختلاف، والحق في التميز، وبذلك تقتل الحوار والتواصل كقيمة جوهرية. إن العولمة بالنسبة إليه هي الأمركة، وهي مرتبطة بالأخلاق قبل ارتباطها بالاقتصاد. كان عالماً جريئاً مقدراً من طرف الجميع داخل المغرب وخارجه.
مشاركة :