عوالم ساحرة وقصص حب حالمة في حكاية تدوم ثلاثة أيام بقلم: ممدوح فرّاج النّابي

  • 7/22/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

عوالم ساحرة وقصص حب حالمة في حكاية تدوم ثلاثة أيام حظي الروائي القزغيزي جنكيز إيتماتوف بشهرة عريضة على امتداد العالم، بسبب روايته القصيرة “جميلة” 1958 التي وصفها الشاعر الفرنسي أراغون بأنها “أجمل قصة حب في العالم”. قصة الحب التي كانت هي عصب الرواية مرّرها الكاتب في الكثير من رواياته، منها روايته “شجيرتي في منديل أحمر”، فمغامرة الحب التي قامت بها جميلة بطلة الرواية الأولى كررتها الفتاة صاحبة المنديل الأحمر. عالم الحب والبساطة هو سمة سائدة في معظم أعمال الكاتب، وبالمثل عالم التمرد والمقاومة.العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/07/22، العدد: 10699، ص(17)]حلم قصير بأرض جديدة (لوحة للفنان غسان السباعي) في رواية جنكيز إيتماتوف “عين الجمل” نرى عالمًا يجمع بين البساطة في الحكاية والتعقيد في المضمون والرسائل التي تطرحها رؤية الكاتب على لسان أبطاله وتعقد مسارات حكاياتهم. الرواية هنا لا تحمل خطابات زاعقة أيا كانت أيديولوجيتها؛ عرقية أو حزبية أو دينية، وإنما هي رواية اجتماعية في المقام الأول وإن كانت تميل إلى الجانب النفسي حيث تتوغل في داخل الإنسان، لتكشف عن طبيعة الصراع الأزلي بين الإنسان وأخيه الإنسان. البساطة والعمق تبحث الرواية، الصادرة في ترجمتها العربية الأولى عن دار طوى بتوقيع المترجميْن؛ ثائر زين الدين، وفريد حاتم الشحف، عن أصل العداوة الإنسانية، ودوافعها، في صورة العلاقة الصراعية بين بطلي العمل. الأول “كميل” ناقل الماء، الذي لم يكمل دراسته بعد الثانوية، وإن كانت لديه آمال في أن يلتحق بكلية الميكانيك. يحمل أفكارًا لا يستطيع أن يخفيها، يحلم دومًا بصوت عالٍ، بأن يؤسِّس دولة أنارخاي. وهو ما سبب له سخرية من رئيسه في العمل أباكير. أما الثاني فهو “أباكير” الذي يُعامل كميل على أنه عدوه بل يُحقِّر من شأنه ويسخر منه ويصفه بأنه أكاديمي تارة ومرة ثانية بمناداته بلقب “باي” بما تحمل هاتان الكلمتان في سياقاتهما من تحقير.الرواية محدودة بدءا من الحدث العادي والزمن المحدد والأحداث القليلة وتقلص الشخصيات، لكنها قدمت عالما متكاملا تبدأ الرواية بصوت أباكير وهو يصرخ في وجه كميل مُهددًا إياه بأنه سيشوِّه وجهه. هذه العلاقة الاستهلالية التي تبدأ بها الرواية هي التي تهيمن على السرد، وهي علاقة صدامية ليس فقط مع كميل بل مع جميع من يعيشون في اليورتا، فأباكير خدع كاليبا التي أحبته ووثقت فيه، وحملت منه وبعدها هرب في نهاية العمل. أفكار الحلم والأمل التي راودت كميل هي نتاج أفكار مُعلِّمه ألدياروف مُعلِّم التاريخ. فكان ثمة حلم راوده عندما ذهب إلى هذه الأرض أنارخاي بأن “أنهارًا كبيرة من المياه، من الممكن أن ذلك مازال محض توقع … لكن أثق أن الناس ستروي هذه الأرض وستنتشر في أنارخاي الحدائق الخضراء، وستجري المياه في الآثام الباردة وستقيس الرياح المحلية حقول الحبوب الذهبية، وستنمو هنا المدن والقرى، وسيسمي أحفادنا هذه السُّهب دولة أنارخاي المباركة” وكان هذا الحلم سببًا لأن يطلب الذهاب إلى هذه الأرض في حين ذهب الأصدقاء الآخرون إلى كازاخستان حيث الأرض البكر الحقيقية. على الرغم من قلة الأحداث في الرواية وكذلك صغرها حيث لا تتجاوز 80 صفحة من القطع المتوسط، إلا أن الراوي يصف لنا معالم المكان وما يتمتع به من طبيعة جغرافية حيث سهول الشيح الممتدة ترعى فيها الأغنام وقطعان الخيول، ولا ينسى أن يعرج على تاريخ المنطقة عبر إشارته إلى تمثال المرأة الحجرية الذي وضعه الكلميكيون كما وصف له الرفيق المهندس الزراعي. هناك مشهدان متناقضان يعكسان تبادل الأدوار، المشهد الاستهلالي حيث أباكير يصرخ في كميل ويقول له “سأشوِّه وجهك”، ومشهد الخاتمة حيث يصرخ كميل في وجه أباكير لكن بغرض الاطمئنان عليه. المشهدان ليس بينهما فاصل زمني كبير بل العكس، فالزمن قصير جدًّا، إلا أن كميل حينما حانت له الفرصة وصار كل شيء بيده، لم يعامل أباكير بالمثل، بل أشفق عليه. يلعب جنكيز إيتماتوف دومًا على إبراز جماليات المكان الذي ينتمي إليه، وكذلك خصوصياته، وكأنه يستخدم الرواية للترويج له. الخير والشر تبدأ الرواية بالصديقين المختلفين كميل وأباكير، إذ يُكن أباكير مشاعر كراهية لكميل تظهر في الاستهلال حيث يعلن له أنه “سيشوه وجه”. يعملان معًا في أحد حقول قرية أنارخاي بعد أن أرسلهما إلى المناطق المستصلحة بعبارات التشجيع والحماس “الفاتحون الأماجد والطلائع الشجعان”. والده استشهد في جبهة القتال وأمه كانت تعمل في معمل السكر، يرصد كل تفاصيل العمل وأثناء الراحة عند هطول الأمطار، بعد ليلة عاصفة راح يفكر في ما آل إليه مصيره في هذه القرية ثم أحلامه الواسعة بأن تصير هذه الأرض دولة أنارخاي المباركة، تظهر له فتاة النبع في اليوم الثاني مباشرة كناية عن الأمل والتفاؤل.الراوي يصف لنا معالم المكان وما يتمتع به من جمال ويسرد علاقة صراعية تصل إلى حد الصدام بين القوي والضعيف ثمة علاقة صراعية تصل إلى حد الصدام بين القوي والضعيف، ظاهرة في علاقة سائق الجرار أباكير وكميل، عبر استخدام خطاب استعلائي وإقصائي وفي بعض الأحيان خطاب سخرية وعنف؛ “سأخنقك أيها الجرو! ولينقصنا أكاديمي يسيل مخاطه!”. وتارة “آه منك أيها الأكاديمي” في سخرية منه، ومرة “أيها الصغير”. الشر دائما يقف حائلا دون الجمال، فبينما يدور الحديث مع فتاة النبع وأحلام المستقبل يأتي صوت أباكير صارخًا “أيها الأكاديمي، سأشوه وجهك..” وهو ما يقطع الحديث ثم في مرحلة ثانية يبدأ أباكير في التقرب من الفتاة. وتارة أخرى عبر التقليل من الشأن فيسخر أباكير من كميل بقوله “تعال حك لي صدري” أو “أنك تحمل نفسية باي”. الرواية تكاد تكون محدودة في كلّ شيء بدءًا من الحدث الذي هو حدث عادي وربما يراه آخرون أقل من العادي، وزمن محدد جدًّا فأحداث الرواية لم تتجاوز في مقاطعها الخمسة القصيرة اليومين أو الثلاثة أيام، بالإضافة إلى تقلص شخصياتها، بل إن هناك شخصية الفتاة الراعية التي يلتقيها البطل عند عين الجمل نبع الماء، تكاد تظهر باستدعاء الآخرين لها. العمل أشبه بمونولوج طويل يسرد فيه كميل ما حدث له منذ وصوله إلى هذه الأرض غير المستصلحة وهؤلاء الذين قدموا معه بإشراف المهندس الزراعي “سوروكين” المشرف عليهم هنا، سائقا جرار، وعاملا مقطورة، وطاهية وهو ناقل الماء والمهندس الزراعي. كما يصف لنا يومه في العمل من الصباح حتى الارتماء في الخيمة للنوم كالميت. الشيء الوحيد الذي يفسد عليه الحياة في هذا المكان، هو لماذا لم يرُق لأباكير ولماذا يكرهه هذا الكره. للمرأة مكانة كبيرة في كتابات إيتماتوف فهي دومًا تساند الرجل وتقف إلى جانبه في الأزمات وهنا في الرواية صورة بازغة لدور المرأة الفاعل حيث تعمل إلى جوار الرجل في هذه البيئة القاحلة، تساعده وتسانده، كما هو واضح في زوجة عامل المقطورة، وعشيقة أباكير. هناك أيضًا فتاة المرعى التي تخلت عن دراستها لتساند أمها في الرعي. لكن التمرد هذه المرة لا يأتي من قبل الفتيات كما حدث في روايتي الكاتب السابقتين وإنما يأتي من الرجال، وكأن التمرد ملمح مهم على كافة الأنساق، سواء التقاليد أو الظلم والقهر، هنا يتمرد الأخ على أخيه وكذلك على زوجته بعد السباب والشتائم، وبالمثل كميل يتمرد على أباكير الذي يصرخ في وجهه دومًا.

مشاركة :