"يكفي أننا معا" إعادة الاعتبار لقصص الحب بقلم: ممدوح فرّاج النّابي

  • 2/25/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

يكفي أننا معا إعادة الاعتبار لقصص الحبهناك من القضايا الإنسانية ما يبقى صالحا على الدوام للكتابة والاستلهام منه في عوالم إبداعية مختلفة، مثل الحب، الحب الذي مهما كتب فيه وعنه من شعر وقصص ومهما قيل من حكايات يبقى محافظا على ثرائه كمعين كاف لكل البشر دون أن ينضب أبدا.العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/02/25، العدد: 10554، ص(17)]إعادة الاعتبار لقصص الحب الرومانسية (لوحة للفنانة ريما سلمون) في كتابات الروائي عزت القمحاوي على تعددها ما بين روايات ومجموعات قصصية وبورتريهات، ثمّة نزوع نحو عوالم إنسانية رهيفة وحميمية أيضا، خاصة في علاقة البشر ببعضهم البعض أو علاقة بعضهم مع من حولهم. فحارس الرئيس في رواية “الحارس” يعيش في “معاناة خدمة رئيس لا يراه”، وفي رواية “بيت الديب” التي حصل بفضلها على جائزة نجيب محفوظ، نتوقف أمام شخصيات تتعارك مع الحياة من أجل البقاء لا أكثر، شخصيات تبدو بسيطة وتحمل أحلاما أكثر بساطة كما في شخصية مباركة الفولي التي كانت أمنيتها أن يكتب حفيدها لها “رسالة إلى الله تذكره بها”. الحب والتوجس لا تنفصل عوالم القلق والتوجّس التي تعيشها شخصيات روايات القمحاوي عن عالم روايته الجديدة “يكفي أننا معا” الصّادرة عن الدار المصرية اللبنانية 2017، فالقلق باد في العلاقة الاستثنائية التي صادفت المحامي المخضرم جمال منصور في أواخر عمره، ومع أنها حالة حب بامتياز، إلا أنه كاد أن يُضيِّعها، بتفكيره في وهم فارق العمر، الذي يُفْسد عليه اغتنام هذه الفرحة التي جاءته تعويضًا عن عمره الذي سرقته دوامات الحياة. جمال منصور، المحامي، بطل الرواية المُقبل على الستين، والضليع بقضايا الأحوال الشخصية، والمتذوق للأدب والعاشق لنصوصه، يعيش في دوامة الحياة وهديرها، حياته مركزها بين قضاياه في مكتبه وبيته، لم يشغله شيءٌ سوى مُراقبة الزحف الوئيد لشيخوخته، فخطّط للتقاعد في الخامسة والستين، واضعا خطة للادخار بحسابات دقيقة لكلّ شيء بما في ذلك تكاليف جنازته. ثمّ فجأة يسقطُ في معترك مغامرة حُبٍّ عاصفة مع خديجة البابي، طالبة الدكتوراه في الفنون الجميلة وذات السّابعة والعشرين ربيعا. تدخل العاشقة الولهانة عليه بحكاية ساذجة عن دراستها للمحاكم، وحاجتها لرأي الأستاذ في المباني وعلاقتها بالسلطة. على الرغم من صدق الحكاية المروية بحكم عملها في الجامعة، وإعدادها لأطروحة دكتوراه في هذا الموضوع، إلا أن الهدف الأساسي الذي ذهبت من أجله لم يصب. ولم يلتقط المغزى المتوارى خلف الحكاية القناع. تعود العاشقة بعد أوّل لقاءٍ مُحبطة، وهي التي مُنيت من قبل بمرارة الفقد، ومحمّلة بتجربة فاشلة في صورة علاقة صديقتها بزوجها الأكبر منها. ويزيد الإحباط بموجة من السخرية من صديقاتها، إلا أنها لم تيأس. فكرَّرت المحاولة ونجحت، وإن كان الحذر والتوجُّس هما سيدا الموقف مع المعشوق جمال.السرد في النص يضطلع به راو عليم قريب من الشخصيات ومن أفكارها، وهو ما أدى إلى إمكانية التجول في داخلها حكاية العاشقة والمعشوق الذي يصير عاشقا هي إعادة الاعتبار لقصص الحب الرومانسية، بدءا من العنوان الذي يُحلِّقُ بنا في عوالم العشق إلى حدِّ الانصهار والاستغناء عن الجميع. فيعيد الكاتب بحكايته عن جمال وخديجة، أجواء قصص الحب والتضحية التي كانت سائدة في روايات الأربعينات من القرن الماضي، وإن كانت بمحفزات حداثية وما بعد حداثية. استعادة الكاتب لهذه القصص الرومانسية في سياق ثقافي وسياسي مختلف عمّا كانت تدور فيه، أشبه بمحاولة للطفو فوق القبح الذي صار ملمحا عاما في كل شيء، وهو ما يتجلّى بصورة واضحة في الغنائية التي يصف بها السّارد مناطق اللقاء بين العاشقين جمال وخديجة، خاصة في روما وحدائقها، وكأنّ الكاتب يرثى للحالة التي وصلت إليها القاهرة التي لا تختلف في مبانيها وشوارعها عن المدن الإيطالية التي تتوازى مع شوارع قاهرة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي قبل أن تصيبها هجمة الرأسمالية. سلطان الحب يخضع جمال لسُلْطان الحُبِّ بعد لأْي وأَنَاةٍ، إلا أنّ ثمّة مُنغِصاتٍ كَدَّرت عليه أن يعيش السعادة التي أرادتها خديجة لعلاقتهما، أولها عدم تصديقه بأنها معجبة به، وهو “الكهل الأصلع، خشن الملامح الذي لا يستطيع حمل بطيختين في يده”. وما أن تجاوز هذه العتبة -وإن ظلت كالجرس في رقبته- حتى أدركَ بوجود أشياء كثيرة جميلة أَهْمَلَها، وأنّه لم يعش لحظات سعادة كافية، فحياته كانت “ركضا، وكان الركض نوعا من الهروب” ومن ثمّ عندما جاءته رسائلها تغيّرت حياته واكتشف “أن الحياة يُمكن أن تكون كالأحلام”. وبالمثل كانت الغيرة مُنغصا جديدا في العلاقة ومع الأسف كانت مُتبادلَة بينهما، فجمال كان يغار عليها خاصة في نهاية الرحلة بعد حديثها عن الشاب المهجن آلدو، وهي غارت من نظراته إلى النساء. قد يتساءل أحد “ما الدافع من وراء هذه العلاقة المحكومة بالفشل على الأقل من قبل المجتمع؟”. في ظنيّ لا يوجد سبب لإقدام خديجة على الحب وإصرارها عليه بهذه الطريقة سوى الحب نفسه، ورابطة الحب التي هي أسمى من أي شيء حتى ولو كانت ثمّة فوارق في السّن، وهو واضح في افتتانها بالرجل الذي كانت تذهب لتراقبه أثناء مرافعاته، ثمّ تجاسرت في خطوة صعبة وأن عرضت عليه نفسها، والأهم تحديها لأمها وتجربة صديقتها، وأقدمتْ نحوه بلا هوادة. وفي رائعة باموق “متحف البراءة” هام كمال ابن الطبقة البرجوازية حبا بفسون ابنة الطبقة المتوسطة، ووصل الحب بينهما بعد رحيلها في حادثة إلى أن يُخلِّد ذكراها في متحف عرض فيه كل المتعلقات التي تُذكِّره بفسون، بما في ذلك أعقاب سجائرها التي كانت تدخنها. الأصدق لنا أن نقول إنه الحب وكفى، والدليل أن الحب دفعها لأن تختار قمصان النوم الجديدة أثناء الرحلة، وبالمثل تغضب لأنه لم يلتفت إلى مكياجها أو ملابسها. كل هذه الأشياء الدقيقة تجعلها هائمة، وبالمثل غيرتها عندما نظر إلى المرأة البدينة.رابطة الحب أقوى من أي شيء آخر وعبارة “لا يمكن للمرء أن يحمل بطيختين معا” التي لطالما يرددها دائما جمال منصور في ديباجة مرافعاته، مثلما هي مفتاحه لكسب قضايا موكلاته من النساء الأرامل وطالبات الطلاق، فهو لم “يترافع في حياته إلا عن النساء”، هي مفتاح شخصيته ومن ثمّ عندما طرقت خديجة باب مكتبه وأطلّ مِن عينيها الحُبّ، لم يفتح بسهولة بل راوغ، فهو نموذج لشخصية الأخ الكبير في الطبقة المتوسطة المصرية، الذي سرقه اهتمامه برعاية إخوته عن التفكير في نفسه، وعندما تذكر حقّه في هذه الحياة وجد أن العمر فات، ففكّر لحظتها لو أن طبيبا يُخلِّصه من ثلاثين سنة من عمره. يضطلع بالسّرد في النّص راو عليم، قريب من الشخصيات ومن أفكارها، وهو ما أدَّى إلى إمكانية التجول في داخلها، فيكشف صراعاتها الداخلية، وهي التي يميل فيها السرد إلى التأمُّل. وإن كانت ثمة حوارات تتخلّل السّرد، تكشف هي الأخرى عن توترات العلاقة ونظرة الآخرين إليها. كما تعددت مستويات اللغة داخل الخطاب الروائي ما بين لغة فصيحة، هي ملمح السّرد بصفة عامة تحتوي الكثير من ألفاظ العشق وعبارات الهيام، وهو ما جعل النص يميل إلى الشعرية في الكثير من الوحدات السردية، وعامية في الحوارات، وكذلك في متون الرسائل التي شغلت حيزا مهما في النص، بل كانت التكنولوجيا وسيطا في النص حيث هي التي أَكملت العلاقة إلى طورها الأخير. الرواية دعوة للأخذ بمتع الحياة دون التقيّد بسن أو بظرف أو حتى بالآخرين، فالسعادة لا تستأذن، وإذا جاءت فلا يجب أن نضيّع الاستمتاع بها في حجج من قبيل فارق السن وفوات الموعد، فأجمل ما نعيشه هو ما يأتينا بغتة. وأجمل ما فيها الحب.

مشاركة :