اختيارات جريئة ومغامرة لـ«مهرجانات بيت الدين»، وتغليب للموهبة على حساب البريق والشعبية وإغواء بيع التذاكر. من حفل الافتتاح مع الفنان الفلسطيني البديع عمر كمال، الذي لا يعرفه الجمهور اللبناني كثيراً رغم تجربته الغنية، إلى حفل آمال مثلوثي، أول من أمس، التي حملت تجربتها السخية وحسّها التجريبي العالي وخبرتها الموسيقية الفياضة وجاءت إلى قصر الأمير بشير الشهابي التاريخي، لتغني في باحته الداخلية المبهرة بأقواسها وأدراجها وشرفاتها ومشربياتها ونافورتها التي تتوسط المكان.«هذه المرة الأولى لي في لبنان»، قالت آمال مثلوثي التي ارتبطت شهرتها بالثورة التونسية، وبكلماتها المحمولة بالوطنية والعنفوان. جاءت إلى «بيت الدين» لتفتتح حفلها بأغنية مارسيل خليفة «بغيبتك نزل الشتي قومي طلعي عالبال، في فوق سجادة صلاة والعم بيصلوا قلال». على طريقتها الخاصة، التي لا تشبه غيرها، أدّت آمال هذه الأنشودة الجميلة وكأنّما بلا موسيقى بالكامل، لتتبعها مع فرقة موسيقية صغيرة من 3 أشخاص، أحدهم على البيانو والأورغن معاً، وآخر على آلات إيقاع شرقية وثالث على الدرامز. لكن مثلوثي بقيت باستمرار معتمدة على صوتها وإيقاعها الداخلي وهي تنوع وتعدد في أساليبها، فمن أغنية إنجليزية بعد مارسيل «لا أشعر بالخجل» إلى أخرى أهدتها إلى أطفال سوريا «قديش قديش دياري تهجرت... قديش في ناس انظلمت... قديش من كلمة وجعت...»، متحدثة عن الأفكار والأحمال الثقيلة التي تنوء بها كواهل المتألمين.هذه الكاتبة والمغنية المتعدّدة المواهب والعازفة أسمعت جمهورها بطراوة أغنيتها «نحب ندفن راسي وأوهامو، فكري وأحلامو، صوتي وكلامو. نحب ندفن قلبي ودقاتو، ندفن عذابي في سكاتو، ندفن عمري في حياتو. ندفن بدني ونواحو دمي وجراحو»، لتنتهي إلى إعلان رغبتها في دفن روحها في أحضان الحبيب.ما بين العربية والإنجليزية ولغات أخرى، تغني بها آمال، جاءت الأمسية عذبة، وإن بدأت بطيئة بعض الشيء، لكنّ صبية «ثورة الياسمين» التي غنت للمحتجين بعد رحيل بن علي «أنا حرة وكلمتي حرة» في الساحات، بدت بعد النصف الأول من الحفل، كأنّها خرجت من أدائها العادي، لتدخل في حالات من التجلي المتصاعد، وفيما يشبه الأدوار الصوفية.بإيقاع سريع ولاهث، أدت أغنيتها «إنسان ضعيف»: «هذاك هو الموجود الموجود الموجود، يلزمك كي تطيح تاقف كي تضيع ترجع وعمرك ما تقول عييت، عمرك ما تقول فديت، عمرك ما تقول فديت، عمرك ما تقول فديت، في بالك الدنيا حاجتها بيك، حاجتها بيك، حاجتها بيك، والعالم يستنى فيك يستنى فيك يستنى فيك». هذا التكرار مع دوران مثلوثي كما الدراويش، كان له فعل روحاني على جمهور، أخذ يكتشف تدريجياً مغنية يراها للمرة الأولى.لُقبّت مثلوثي بـ«صوت الثورة التونسية»، لكنّها ناشطة، وذات توجهات إنسانية على المسرح وفي الكلمات التي تكتبها وتختارها، تمزج بين أصالة الموسيقى التونسية والأصوات الإلكترونية في تجارب غنائية تبدو أحياناً عصية على الفهم، لكنّها في الوقت نفسه جذابة. يشعر المتفرج حيالها بفضول غامر. صغيرة السن ثلاثينية، لكنّ جنون التعبير عن نفسها بأسلوبها يكاد يكون هاجسها. غنت إضافة إلى مارسيل خليفة للثائرين الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. وفي الحفل أدّت بالإنجليزية لجبران خليل جبران «أنا الغريب في هذا العالم»، من ديوانه «العواصف».فنانة تبدو كأنها تقاطع وسط خيارات كثيرة. وفي حفلها شاركت آمال مثلوثي جمهورها بالبحث عن الجدّة والحداثة، ببساطة المتمكن، بعيداً عن الادعاء. حين هامت في موسيقاها، قلعت حذاءها، وأخذت تدور كصوفية سكنتها النشوة، وتتمايل على إيقاع الطبل كما في حلقات الذكر.محيرة هذه الفنانة، فبقدر ما هي عروبية وثورية، تجدها تغرف من الموسيقى الغربية. وكلّما شعرت أنّها تذهب بك تغريباً إلى ثقافة لا تشبهك، تعود لتشدو كما لو أنّها آتية من مكان سحيق بعد أن نفضت غبار الزمن.أنهت مثلوثي حفلها، من دون أن تغني نشيدها الأشهر، الذي كان له الدور الأكبر في تعريف العالم بها، وإيصالها إلى أوسلو وحفل توزيع جائزة نوبل التي غنت خلالها. لكن الجمهور لم يترك لها خيار المغادرة، في بيت الدين، من دون أن يستمع إلى مفضلته. وكانت مثلوثي لا بدّ تعرف ذلك وتهيأت له. فسرعان، ما تناولت الغيتار علقته في رقبتها وأخذت تعزف وتغني «أنا أحرار ما يخافوش، أنا أسرار ما يموتوش، أنا صوت اللى ما رضخوش. أنا حرّة وكلمتي حرّة. أنا في وسط الظلمة نجمة. أنا في حلق الظالم شوكة. أنا ريح لسعتها النار. أنا صوت اللي ما ماتوش».وسط حماس دبّ في جمهور ملأته النشوة، غنّت مثلوثي أيضاً أغنية تونسية أرادت للجمهور أن يردّدها وراءها، ومن ثم لم تغادر المسرح دون أن تغني فلسطين المتألمة، بما يشبه الصلاة والتراتيل الخاشعة، حيث دوّى صوتها النقي من دون موسيقى، وحده في فضاءات القصر العتيق، وتردد صداه بعيداً جداً في وجدان حضور وقف يصفّق لها طويلاً، كأنّه لا يزال غير مصدق أن ينتهي الحفل على هذا النحو المدهش، وكانت البدايات لا تشي بهذا أبداً.
مشاركة :