في أيام رمضان الشريف تمتد ساعات الصيام في بريطانيا من وقت السحور في نحو الساعة الثالثة فجرا حتى وقت الإفطار في نحو الساعة التاسعة مساء. ففي شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) يستغرق النهار أطول وقت في السنة. ولا نستطيع غير أن نحيي الصائمين في هذه الأيام على عزمهم وقوة إرادتهم، وبالطبع عمق إيمانهم وتمسكهم بالفرائض. أتذكر الكثير من هذه المعاناة في أشهر الصيف القاسية في العراق، ولا سيما في شهر أغسطس (آب)، الذي يقول عنه العراقيون: «آب يحرق المسمار بالباب». وهو ما حمل أحد شعرائهم للاعتذار عن الصوم بهذين البيتين: إن كنت قدرت الصيام فاعفنا من شهر آب أو لا، فإنا مفطرون وصابرون على العذاب وهي لعمري حماقة ما بعدها من حماقة، أن يحسب عذاب جهنم أهون من عذاب شهر (آب) في بغداد، حتى عندما تنقطع الكهرباء وتتوقف المراوح والمكيفات. ويظهر أن حر بغداد في أشهر الصيف وطول ساعات النهار كثيرا ما تسبب في مشكلات لأهلها في شهر الصوم. وكان مما أتذكره منها أن رأيت هذه اليافطة معلقة على واجهة أحد المطاعم التي مررت بها وهي تقول: «احتراما لشعائر رمضان المبارك هذا المطعم مغلق. يرجى الدخول من الباب الخلفي». نشأ تراث كبير من الأدب العربي عن طرائف مصاعب الصيام. يروي كتاب الأغاني للأصفهاني فيقول إن الخليفة أصر على الشاعر أبي دلامة أن يصوم شهر رمضان. قال له «إنك إن تأخرت لشرب الخمر علمت ذلك. ووالله إن فعلت لأحدنك (أقاصصك)». فأجابه أبو دلامة: «البلية في شهر أصلح منها في طول الدهر». ودأب الخليفة المهدي أن يبعث إليه بحرس كل ليلة ليتأكد من ذلك. فشق عليه الأمر ولجأ إلى زوجته الخيزران وكل من يلوذ بالمهدي ليعفيه من الصيام. فلم يجبهم. وأخيرا نصحه أحد أصحابه بأن يلوذ بربطة، ابنة أبي العباس السفاح، فإنه لا يرد لها طلبا. فرفع إليها بهذه الرقعة، يقول فيها: أبلغا ربطة أني كنت عبدا لأبيها فمضى يرحمه الله وأوصى بي إليها وأراها نسيتني مثل نسيان أخيها جاء شهر الصوم يمشي مشية ما أشتهيها قائدا لي ليلة القدر كأني أبتغيها فاطلبي لي فرجا منها وأجري لك فيها يقول الراوي: وعندما قرأت كامل القصيدة ضحكت ودخلت على المهدي فشفعت له وأنشدته الشعر فضحك حتى استلقى وعفا عنه وأجازه بعشرة آلاف دينار! وهنا أصبح الأجر على قدر المعصية! وقيل إنهم سألوا أحد الظرفاء، في أي يوم تفضل أن تموت؟ فقال إذا كان ولا بد ففي أول يوم من رمضان. ونظر أحدهم إلى البدر في أواسط الشهر فقال: «أراك سمنت وأهزلتني. وما أراه من ورائك غير السل!».
مشاركة :