«الجزيرة» غلوّ في الخطاب التحريضي وهبوط إعلامي فاضح

  • 7/24/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

حولت قناة «الجزيرة» قطر إلى دولة مهمة ومنحتها الفرصة لتمارس دوراً سياسياً أكبر بكثير من حجمها، وجعلتها تتصرف مع الآخرين بفوقية وكأنها مركز العالم، والوصي على قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، والحريصة على القضية الفلسطينية أكثر من أصحابها.مشكلة «الجزيرة» ليست في ضعف المهنية أو غياب الموضوعية، أو أنها توظف الإعلام إلى خدمة الدعاية السياسية، فهذه مشكلة وسائل الإعلام على مر التاريخ، ولكن المشكلة في نوعية الرسالة السياسية التي تريد إيصالها إلى الناس، وفي دوافعها ومن يستفيد منها ومن يحركها، فهي لم تتوقف عن حربها المعلنة على الشعب الفلسطيني وقيادته وقضيته، رغم كل المظاهر الخداعة التي توحي بعكس ذلك، وقد تمكنت من اختراق حالة الوعي الوطني لدى جمهور واسع، وإعادة تشكيله برؤية قطرية جديدة، وقدمت رواية مشوهة عن النضال الفلسطيني، وأسهمت في شق الصف الفلسطيني ومولت الانشقاق، ومسخت كل ذكرى جميلة من التجربة الناصرية، وخلقت في كل بلد عربي أزمة، وشوهت قيادات وطنية وضللت الناس، وجعلت من أشباه مثقفين ومشبوهين أبطالاً ونجوماً في عالم الإعلام والمزايدة.يستعرض الباحث والإعلامي محمد أبو الرب في كتابه بعنوان ««الجزيرة» وقطر: خطابات السياسة وسياسات الخطاب»، كيف مارست القناة القطرية بشكل ممنهج «التشويه الإعلامي ، ويضم الكتاب خمسة فصول ، في الأول يتناول أهمية الإعلام المرئي وآليات عمله وتقنياته في رسم صورة متخيلة في الأذهان، ويبيّن أساليب «الجزيرة» في هذا المجال، وكيف وظفت قطر سلطة المرئي في تشكيل علاقاتها في المحيطين العربي والدولي، عبر فن تصنيع الإجماع، والخطاب الأيديولوجي. الانطلاقة يستهل الكاتب بعرض موجز عن ظروف انطلاقة «الجزيرة» عام 1997 عادّاً تغطيتها لعملية ثعلب الصحراء عام 1998، المحطة الأهم في شهرتها على المستوى العربي، أما تغطيتها لأحداث 11 أيلول وما تبعها من غزو أفغانستان، فقد كانت سبباً وراء انتشارها عالمياً، لا سيما أن تغطيتها لحرب أفغانستان، اتسمت بالمهنية والجرأة، حين عرضت صور الضحايا المدنيين، كما أنها من خلال هذين الحدثين كسرت هيمنة وسائل الإعلام الغربية على مصادر الأخبار وتوزيعها. ولكن الكاتب يفند المديح التقليدي للجزيرة بأنها كانت السباقة في تقديم خطاب إعلامي مغاير للمألوف، انتقل بالإعلام العربي إلى مستوى العالمية والاحتراف، حيث أوضح أن محطة «BBC العربية» التي جاءت «الجزيرة» محلها وعلى أنقاضها، كانت هي السباقة وصاحبة الريادة، وهي أول من استخدم اللغة أسلوباً للمصارعة، عبر بعض البرامج الحوارية الجريئة التي قدمتها وانتقدت فيها أنظمة عربية كالسعودية، وربما كان هذا سبب إغلاقها فيما بعد، مع تأكيده أن «الجزيرة» نجحت في أن تشكل ظاهرة إعلامية وسياسية مغايرة للفضاء العربي، وخطفت الأضواء من بقية القنوات الفضائية بسبب أسلوبها المتجدد في طرح القضايا، وبسبب تخطيها الكثير من الخطوط الحمر التي لم يجرؤ أحد على تخطيها من قبل، وكسْرِها للحالة النمطية للتلفزيون التقليدي، فضلا عن الموضوع الإشكالي في استضافتها متحدثين «إسرائيليين» في سابقة إعلامية عربية.في الفصل الأول يوضح الكاتب تأثيرات الإعلام المرئي في المتلقي، بخلق صورة بصرية ذهنية يستطيع بها التلفزيون تشكيل رأي عام، وهذا أمر تشترك فيه كل القنوات الفضائية، ولكن «الجزيرة» ذهبت به بعيدا فأتقنت هذا الفن أكثر من غيرها. وحسب أبو الرب: «لم يعد التلفزيون مصدر إخبار وإبلاغ، بل صار وسيلة تكتسب قدرة خاصة لكونها صورة، ما يعني أن فعاليتها صورة لا تكون في تكذيبها أو تصديقها، بل في الأثر الذي تحدثه»، أي أن المرئي له قدرة صناعة الديماغوجيا وتضليل المشاهد، عبر خلق صورة بصرية مغايرة للواقع، ولكنها توهمه بأنها حقيقة، خاصة إذا تمكنت من إحداث قطيعة معرفية مع الواقع والزمن الذي تشكلت فيه.ويستعرض الباحث مثال البرامج الحوارية التي يرى أنها تستخدم آليات الخطاب نفسها، في نشرات الأخبار والتقارير وحتى المقابلات الخاصة، لأنها «برامح موجهة يعتمد نجاحها على مدى قدرتها على تضليل الجمهور». ويورد أمثلة للآليات المستخدمة في التشويش على بعض المتحدثين - إذا كانوا من خط سياسي مختلف معهم - مثل طبيعة الأسئلة الموجهة إليهم التي تضعهم في مرتبة المتهم، والوقت القصير الممنوح للإجابة، وزاوية تسليط الكاميرا وغيرها من المؤثرات، بينما تنتقي ضيوفها المؤيدين لسياساتها كالقرضاوي، وعزمي بشارة وآخرين، يستدعون عند الحاجة، فتمنحهم الوقت الكافي للحديث دون مقاطعة مع أسئلة مريحة.في الحالة الأولى لا يتوقف الأمر عند حصر المتحدث في زاوية محددة، بل في تسطيح النقاش وتحويله إلى استجواب، أو في دور المذيع في تسخين الحوار بعيداً عن المهنية، خاصة في المقابلات النارية الصدامية التي تتحول إلى مصارعة كلامية يضيع فيها المشاهد بين توترات نبرات الصوت في صعودها وخفوتها، وانحياز المذيع إلى ضيف دون الآخر، وتوزيع الوقت بشكل غير عادل، ما يحوّل الموضوع برمته إلى تنافس في القدرات الصوتية، بغض النظر عن المضمون ووجاهة الأفكار.ومن الأمثلة التي يوردها الباحث في كتابه عن أساليب «الجزيرة» وآلياتها في خلق التوجهات العامة للمشاهدين، فن حجب المعلومات وتقديمها حسب الحاجة، عن طريق العرض وإعادة تشكيل الصورة على نحو مختلف تماما عن الحقيقة، واستخدام آليات الإبهار الضوئي والموسيقى التصويرية، ليس في طريقة تقديم الخبر وحسب، بل في ترتيب الأولويات وتقديم خبر على آخر، والتركيز على موضوع وإهمال غيره، فيقول: «التلفزيون يقدم لنا ما يريد أن نشاهده، فيفرض علينا قوالبه كما يحدد لنا زوايا الرؤيا، أي يتيح لنا نافذة مفتوحة على العالم، ولكنه لا يسمح لنا رؤية ما يخرج عن إطارها».في الفصل الثاني يتحدث أبو الرب عن خطابات «الجزيرة» ودبلوماسية قطر، ويثير من خلاله السؤال الذي طالما حيّر الناس: كيف نجحت «الجزيرة» في الجمع بين المتناقضات، في استضافتها الزعماء العرب ومعارضيهم على حد سواء، في حربها الإعلامية على أمريكا واحتضانها أهم وأكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، في دعمها الخطابي للمقاومة وعلاقتها بـ«إسرائيل» عبر فتحها مكتب تمثيل تجاري «إسرائيلياً» هو في حقيقة الأمر مكتب للموساد، وفي علاقتها الغريبة بإيران؟؟ إلى غير ذلك من المتناقضات.من الواضح أن هذا هو أسلوب قطر في العهد الجديد الذي دشنه حمد بن خليفة، بعد انقلابه على والده، حيث أوضح الأمير أنه ليس بحاجة إلى طيران وعسكر، لأن «الجزيرة» ستكون هي القوات المسلحة القطرية، وفي حقيقة الأمر، فإن التداخل بين ما هو سياسي وما هو إعلامي ليس بالأمر الطارئ أو الجديد، فالمؤلف يثبت العلاقة بين الظروف التي أنجبت «الجزيرة» وهيكليتها ومصادر تمويلها مع ارتباطاتها الجيوسياسية ودورها الوظيفي. وتمكنت قطر، بمقدرتها على الجمع بين المتناقضات، أن تبقى فاعلة ومسيطرة، وفي هذا الصدد يقول الكاتب: «تتعاون قطر مع الأمريكان و«الإسرائيليين»، بينما تعطي فسحة للقرضاوي وغيره من المعارضين العرب، فضلا عن الظواهري وبن لادن، لنقد أنظمة بلدانهم، وبالتالي توجيه الاهتمام العربي بعيدا عن السياسة القطرية والتغطية على علاقتها بـ ««إسرائيل»» وأمريكا». ويضيف قائلاً: «استراتيجية «الجزيرة» للسيطرة على الفضاء الإعلامي العربي تعتمد على التنوع في عرض القضايا، وهذا التنوع يضمن استمراريتها من ناحية، ومن ناحية أخرى يغطي على سياساتها الاقتصادية ومشاريعها السياسية، وهذا ما يفسر اختلاف خطابها بين قناتها الناطقة بالعربية والثانية الناطقة بالإنجليزية، خاصة في تعاطيها مع الشأن الأمريكي».ويؤكد الباحث أن «الجزيرة» رغم ادعائها بالاستقلالية، فإنها لا تنتقد الشأن القطري، فهي لا تستضيف معارضين قطريين، ولا تتحدث عن تقارير حقوق الإنسان فيها، ولا حتى تأتي على أخبارها العادية. وفي المقابل فهي لا توفر أي نظام عربي من النقد، بل إنها تفتعل ذلك لخلق أزمات معها، فقد تسببت «الجزيرة» بخلق أزمات سياسية لقطر مع كل من السعودية والبحرين والأردن ومصر ومعظم الدول العربية، حتى إن علاقتها بالعراق وإيران كانت سبباً في توتر علاقتها بدول مجلس التعاون الخليجي.ومن الأمور المثيرة للجدل في استراتيجية «الجزيرة» علاقتها المريبة مع تنظيم القاعدة، وبثها تسجيلات للظواهري وبن لادن، ما جعل البعض يتهمونها أنها تقدم دعماً خفياً للإرهاب، الباحث أبو الرب يستعرض في كتابه بعض الأمثلة من برامج قدمتها «الجزيرة» حاولت من خلالها إظهار بن لادن بطلا على المستوين العربي والإسلامي، سواء من خلال صناعة المقارنات أو من خلال استضافة شخصيات مؤيدة له، كما حدث ذلك في تغطيتها لمقتل الزرقاوي. ويشير الباحث إلى أن «استخدام بن لادن والظواهري لقناة «الجزيرة» مكنهما من الوصول إلى الجمهور العربي والعالمي، واستفادت «الجزيرة» من ذلك مادياً وشعبياً، بينما جنت قطر ثماراً سياسية بإدارتها لعبة علاقات دولية ذكية».يختم الباحث هذا الفصل بالحديث عن استضافة القرضاوي (الرئيس السابق لهيئة علماء المسلمين العالمية)، ومنحه برنامجاً أسبوعياً صنع منه نجماً عالمياً، وجعل شهرته تطبق الآفاق.ويؤكد الباحث أن القرضاوي قدم خدمات مهمة لقطر على حساب دول عربية عدّة، كتقاربها مع إيران، وتأزيم علاقتها بمصر، والتغطية والتمويه على سياسات قطر، بل وتبريرها بسند شرعي وأيديولوجي، حتى أن مراقبين وصفوا ظاهرة القرضاوي وفسروا تحالف قطر مع هذا الرجل، على أنها محاولة لخلق مركز ديني في قطر يوازي المراكز الدينية في مكة المكرمة والأزهر الشريف والنجف الأشرف. تمتين العلاقة بـ«إسرائيل» لحماية النظام ما يؤكده الكاتب أن تجاهل «الجزيرة» تغطية أخبار معينة، يعني تقديمها خدمة لقطر في تضليلها الجمهور العربي، والتغطية على تطور علاقاتها بـ«إسرائيل» إلى درجة رضا الأخيرة عن سياسة قطر، حيث رأى مراسل التلفزيون «الإسرائيلي» في الدوحة، أن استقبال ليفني وغيرها في قطر رسمياً وعلناً، يعد أهم إنجاز للدبلوماسية «الإسرائيلية».يختتم الباحث كتابه بخلاصة مضمونها بأن «الجزيرة» حولت قطر إلى دولة مهمة ومنحتها الفرصة لتمارس دوراً سياسياً أكبر بكثير من حجمها، وجعلتها تتصرف مع الآخرين بفوقية وكأنها مركز العالم، وكأنها الوصي على قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، والقضية الفلسطينية. ويرى أبو الرب، أن «فهم السياسة القطرية بعد انقلاب حمد بن خليفة على والده، مرتبط بفهم النظام الجديد لمفهوم التحديث، حيث كان من أهم المشاريع التحديثية التي ابتدأها الأمير، تمتين علاقاته بأمريكا و«إسرائيل»، لتأمين الحماية لنظامه. متانة العلاقات القطرية بحركة «الإخوان المسلمين» يتحدث الكاتب في الفصل الرابع عن استفادة قطر من الأزمات العربية، عن طريق وساطاتها بين أطراف النـزاع، سواء في فلسطين أو في لبنان، أو مع بقية الدول العربية، ويستهل حديثه بوساطة قطر بين حماس و«إسرائيل» قائلا: «لا يمكن فصل الوساطة القطرية بين حماس و«إسرائيل»، عن وساطتها بين حركتي فتح وحماس، بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، بالحديث عن متانة العلاقات القطرية بحركة الإخوان المسلمين. وحسب افتراض الباحث فإن علاقة الإخوان المسلمين بقطر هي من سمح لها بهامش كبير في المناورة بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» عبر المرور بالبوابة الأردنية».يورد الباحث مقتطفات من لقاء أمير قطر مع عضو الكنيست يوسي بيلين، في فبراير 2008، حيث يعرض استعداد بلاده للتوسط بين «إسرائيل» وأية دولة عربية أو منظمة عربية بما فيها حماس، وتأكيده متانة علاقاته بـ«إسرائيل»، وقوله بشكل واضح: «إن بلاده مفتوحة على «إسرائيل» أكثر من أي دولة أخرى».ثم يواصل الكاتب استعراض بعض الأزمات التي تسببت بها «الجزيرة» لدولة قطر مع دول عربية كالأردن، ثم يعرض لأمثلة عن طريقة تغطيتها للشأن اللبناني، ويثبت انحيازها لتحالف 8 آذار (حزب الله وشركائه الموالين لسوريا وإيران).

مشاركة :