في كل ذكر للرسام الفرنسي بول غوغان، يجري الحديث والتركيز على اللوحات الرائعة والتجديدية التي رسمها خلال المراحل الأخيرة من حياته في الجزر الإستوائية ولا سيما في تاهيتي، في شكل يبدو معه متن كبير وأساسيّ من عمله الفني منسيّاً إلى حد كبير. وهذا المتن هو ذاك الذي يتضمن عشرات اللوحات التي رسمها في فرنسا نفسها، في البداية قبل ارتحاله الى الجزر الإستوائية، ثم خلال عودته الى وطنه بين الحين والآخر لأسباب عائلية أو فنية. ومن هنا، الى جانب التركيز على الجديد المشرق الذي أضافه الى الفن الأوروبي ما- بعد- الانطباعي، يقتضي الأمر بين الحين والآخر، العودة الى أعماله الفنية البديعة الأخرى، «الفرنسية»، ومنها، على سبيل المثال، لوحة «في المقهى» التي غالبًا ما لا يؤتى على ذكرها إلا بالتزامن مع لوحة مشابهة رسمها في الوقت نفسه، وفي المقهى نفسه في مدينة آرل في الجنوب الفرنسي، الرسام فنسان فان غوغ الذي كان في حينها مرتبطاً بصداقة مع غوغان سرعان ما سوف تنفصم عراها. > المقهى الذي رُسمت فيه اللوحتان هو ذاك الواقع الى جانب محطة القطار في المدينة غير بعيد من «البيت الأصفر» الذي كان فان غوغ مقيماً فيه. وتقول سيرة غوغان انه حين وصل الى آرل عند فجر أحد أيام تشرين الأول (أكتوبر) 1888 التجأ الى ذلك المقهى في انتظار ان يطل الصباح ويطرق باب فان غوغ ليقيم عنده. وكان ذلك بداية علاقته بذلك المقهى الذي سيعتاد الجلوس فيه يومياً مع فان غوغ حيث يتحدثان ويشربان ويلعبان البلياردو الذي سيقول غوغان عن نفسه انه كان بارعاً جداً في لعبه. وذات يوم كان لا بد للصديقين الرسامين ان يقررا تخليد هذا المقهى وصاحبته «مدام جينو» وبعض الزبائن المداومين، في رسومهما. وهكذا حقق كل من غوغان وفان غوغ لوحته. ويبدو ان فان غوغ كان المبادر ليلحق به غوغان بعد بضعة أسابيع على سبيل نوع من الاستجابة لـ «التحدي». وطبعاً ليس من شأننا هنا المفاضلة بين اللوحتين، ولكن يمكن عند النظر الى لوحة غوغان ان ندرك بسرعة مدى اقترابها من أسلوب فان غوغ وألوانه من ناحية، ومن ناحية أخرى مدى تمهيدها للأسلوب التلويني الذي سيطغى حتى على لوحات غوغان الإستوائية. > في هذه اللوحة البالغ ارتفاعها اكثر من سبعين سنتمتراً وعرضها اكثر من تسعين، جمع غوغان عدداً من العناصر والأشخاص الذين يشكلون العالم اليومي للمقهى، وبخاصة مدام جينو نفسها التي أفرد لها المكانة الأساسية في مقدمة اللوحة وهي جالسة في مكانها وجلستها المعهودين تنظر بطرف عينها نظرة ماكرة غامضة. وفي الخلفية جمع غوغان اشخاصًا لا بد من الإشارة الى اننا نعرف بعضهم مسبقاً من خلال لوحات لفان غوغ، كالسوافي الجالس بثيابه التقليدية يسار طرف اللوحة، وساعي البريد بقبعته المعروفة، وإلى هؤلاء ثمة ثلاث فتيات هوى من العاملات في بيت مجاور يأتين هنا للتسرية عن النفس. هؤلاء الأشخاص وضعهم غوغان جميعًا في خلفية اللوحة فاصلاً بينهم وبين صاحبة المقهى من طريق طاولة البلياردو التي يبدو واضحاً ان لون سطحها الأخضر الفاقع يفصل ايضاً بين عالمين أحدهما رصين في ألوانه تهيمن عليه صاحبة المقهى والثاني فاقع يتسم بأجواء الملاهي الليلية. ولنلاحظ هنا ايضًا كيف ان غوغان جعل «وشاحًا» من الدخان المتطاير في أجواء المقهى يساهم بدوره في الفصل بين العالمين، فصلاً لا شك في ان نظرة مدام جينو تساهم في ترسيخه. وفي شكل عام يرى دارسو اعمال غوغان ان الرسام، برصانة لوحته واعتماده الخطوط الأفقية فيها، شاء قبل اي شيء آخر ان يعبر عن نظرته الى مدينة آرل وسكانها. > ومع هذا يرى هؤلاء الدارسين أن هذه اللوحة وغيرها من لوحات غوغان الفرنسية عرفت مبكراً كيف تنقل ذلك الدفء الذي سسيطبع عالمه الفني الإستوائي، من دون ان تنتمي الى اية مدرسة محددة، اللهم الا مدرسة النور المطلق. وغوغان في بحثه الصاخب عن ذلك النور، عاش منذ وقت مبكر من حياته، تلك البداوة التي سيعرفها ويعيشها الكثير من فناني القرن العشرين بعد ذلك، ولا سيما منهم، السينمائيين. ولكن لئن كانت ما حركت هؤلاء، أسباب سياسية غالباً، وبعد ذلك أسباب تتعلق بعالمية فن السينما بالتحديد، وأحياناً أسباب تتعلق بالبحث عن صور جديدة ومفاجئة وغريبة، فإن دافع غوغان الى الشرق، وإلى غير الشرق، بحثه الدائم عن الضوء يزين ألوان لوحاته، هو الذي سئم الألوان الغامقة. والحال ان هذا الفنان الاستثنائي الذي لم يعرف سوى الفشل خلال المراحل الأولى من حياته، تمكن من تحقيق حلمه وإن كان قد مات قبل ان ينال هو ثمار عمله. > ولد بول غوغان عام 1848 في باريس التي كانت في ذلك الحين تصخب بأحداثها السياسية الخطيرة. وبعد ثلاثة اعوام من ولادتها وإثر الانقلاب الذي قام به لوي نابوليون، وجدت اسرة غوغان ذات الأصول البورجوازية، ان الوقت قد حان للرحيل، وهكذا توجهت العائلة الى ليما في البيرو، من دون ان يثبط من عزيمتها كون رب الأسرة مات في الطريق. وسوف يعيش بول غوغان الطفل في ذلك البلد الأميركي اللاتيني المشرق حتى سن السابعة. اي انه عاش هناك طوال اربع سنوات، ظلت ذكرياتها منطبعة في ذهنه حتى آخر ايامه، وكانت هي ما حكم رغبته الدائمة في البحث عن الشمس. بعد ذلك عادت العائلة الى فرنسا، حيث تلقى بول دراساته الابتدائية والثانوية، ثم التحق بالبحرية. وحين ماتت امه وكان لا يزال مراهقاً، وجد الفتى انه بات من الفقر بحيث يتوجب عليه البحث عن عمل، اي عمل. وهكذا بدأت رحلة حياته الشاقة وبدأ يبحث عن لقمة العيش في الوقت نفسه الذي اكتشف فيه انه يريد ان يرسم. > منذ تلك اللحظة صارت حياة غوغان ثلاثية الاتجاه: اتجاه نحو الرسم، اتجاه نحو البحث عن عمل يقيم أوده، واتجاه نحو الترحال الدائم. اصبح بدوياً حقيقياً. في البداية اكتفى بالتنقل بين المدن الفرنسية ومناطقها، مرة مع زميله كاميل بيزارو، ومرة في آرل مع فان غوغ الذي سرعان ما اختلف معه. اما ارتحاله الأول الى الخارج، فكان حين اقام في كوبنهاغن بالدنمارك، بعد ان تزوج من دنماركية. غير ان الفشل كان طوال ذلك الحين كله من نصيبه: الفشل في الحياة العائلية، والفشل الفني حيث ان لوحاته الأولى التي تأثر فيها بالمناخ الانطباعي السائد لم تقنع احداً، ثم الفشل في الحصول على اي استقرار. وهكذا راح يهرب الى الأمام، فيتوجه الى مقاطعة بريتاني محاولاً ان يجدد في مواضيع رسمه، ثم يعود الى باريس حيث يعمل لاحقاً للأفيشات، ثم يقع مريضاً مع ابنه كلوفيس، ثم يترك كل شيء ويرحل من جديد. غير ان هذا كله لم يكن اكثر من تحضير لسفره الأكبر. السفر الذي بدأ يتجسد حين شارك في المعرض الدولي في باريس، وزار جناح جاوا (الإندونيسي)، وبدأ تأثره بالشرق يبدو واضحاً. > ومنذ تلك اللحظة صار الشرق هاجسه،. وهكذا ما لبث ان اتجه الى تاهيتي عام 1891، وهناك عاش مع فتاة تاهيتية شابة صارت ملهمته. وراح يرسم تلك اللوحات التي فاجأت الجمهور والنقاد وفتحت آفاقاً جديدة، لوحات عامرة باللون والضوء والموسيقى. وفيها عكس الحياة اليومية للناس الفطريين هناك، الناس الذين احبهم وأحبوه وصار معبراً عنهم وعن تطلعاتهم، مازجاً اياها بأفكار ربما وصلت الى ذروتها في لوحته الأشهر «من أين جئنا؟ من نحن؟ وإلى أين نسير؟». وهكذا عثر غوغان اخيراً على إلهامه الحقيقي وراح يرسم وقد بدأ يصارع المرض والخوف بقوة. بعد ذلك عاد الى باريس حيث اكتشف انه ورث بعض المال من قريب له. غير ان إقامته لن تطول هذه المرة، اذ سرعان ما عاد الى تاهيتي ليرسم من جديد على رغم اعتلال صحته وأيضاً لكي يمضي جل وقته وهو يدافع عن السكان المحليين ضد الأوروبيين الذين لم يتوقف عن تسخيفهم. وفي جزر المركيز كانت نهايته، ولكن بداية اسطورته، هو الذي، راح الكثيرون يقلدون اسلوبه، بل ايضاً يرغبون في عيش حياته، وفي مطاردة الشمس كما فعل.
مشاركة :