قاسم حداد.. الشاعر الذي لا يهرم!

  • 7/24/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

في زيارته القصيرة الأخيرة للكويت أسعدني الشاعر الكبير قاسم حداد بثلاث زيارات لي في مكتبي بجريدة القبس حيث أعمل، وفي كل زيارة كانت الجلسة تمتد لساعات بصحبة بعض الزميلات والزملاء والصديقات والأصدقاء في أحاديث متشعبة ومتنوعة عن كل شيء؛ الشعر والرواية والأغنية واللوحات المعلقة والأصدقاء الذين رحلوا دون أن يودعونا فاستدعى حضورهم المباغت في غواية الذكريات دموعاً سرعان ما نتغلب عليها بعصبية الحديث عن السياسة وأحوالها في بلداننا هذه الأيام، حيث الاختلاف، ولأول مرة، طغى على سطح الاتفاق الموروث تقليدياً. لم أحظ بفرصة حضور الأمسية الشعرية التي أحياها هذا الشاعر الذي يمكن اعتباره صديق الأجيال والتيارات والمدارس والأسماء كلها في الشعرية العربية المعاصرة، لكنني حظيت بدلًا من ذلك بحضوره لأمسية لاحقة شاركتُ فيها برفقة الشاعر المبدع أحمد قران الزهراني، حيث فوجئنا به حاضراً منصتاً مشجعاً مصفقاً في أقصى صف للحضور ليصبح هو قصيدتنا المشتركة في نهاية الأمسية! في كل مرة أجلس فيها بين يدي هذا الشاعر الكبير أكتشف أنه لم يُكتشف بعد، لا من قبل قرائه ولا من قبل أصدقائه! وأنه واسع كبحر يجدد نفسه بنفسه من دون أن يخضع لتقاليد المغرمين بالجلوس على أريكة الماضي لاستدعاء الصور القديمة الباهية ولعن الحاضر رعباً مما قد يأتي به المستقبل! قدر لي، بمساعدة من عملي في الصحافة الثقافية طوال عقود من الزمن أن أعرف كثيرين من هؤلاء الكبار الذين تودي بهم تصاريف الحياة وقسوة تقلباتها في غفلة من الوعي المقاوم للحركة لديهم إلى أن يصبحوا من سكان تلك الأريكة ذات اللون الرمادي الباهت. يجلسون على الهامش مستقيلين من تيارات الثقافة والأدب المستمرة في التدفق عجزاً من الانضمام إليها أو مقاومتها، فيحاولون إقناع أنفسهم الذاوية أنهم استقالوا منها ترفعاً أو تشبعاً! لكن ما يرشح منهم من أحكام غاضبة ولا تخلو من قسوة بادية تفضح العجز وتحيل إلى الشفقة تجاههم من أولئك المتدفقين بحيوية الجديد السابحين في تيارات الحياة بقوة وفرح وتجدد. كثيراً ما توقفت بأسى عند تلك الأريكة الافتراضية في صورها المتنوعة وتصميماتها المختلفة خشية أن أكون واحدة من المندسين بين تضاعيفها قريباً جداً، وكنت كلما أصدرت كتاباً شعرياً جديداً شعرت أنه كتابي الأخير، فلا بد إذن من ذلك القدر النهائي الأخير لمن جرب الكتابة والشعر منذ طفولته تقريباً وكأنه قدرته الوحيدة وخياره النهائي. لكنه يبقى شعوراً عابراً وسريعاً سرعان ما يذوب بين أصابعي وهي تتحرك على لوحة المفاتيح المهترئة أمامي، ليس فقط لأنني مؤمنة بالشعر باعتباره كائناً حي نستمد منه الحياة وليس العكس وحسب، بل أيضاً لأنني أعرف شاعراً باذخ القصيدة اسمه قاسم حداد. كان قاسم حداد ينقذني دائماً ومن دون أن يعلم بالتأكيد، من مغبة التفكير في موات الإبداع! ففي كل مرة أجدني في حضرته شاهدة على حيويته الفائقة ولياقته العالية وقدرته العجيبة على تجاوز عقبات الزمن وتحولاته المربكة للكائن البشري حتى لتتأكد أنه الشاعر الذي لا يهرم ولا يشيخ أبداً، ولا يكون أمامي سوى محاولة اكتشاف السر بمزيد من القصيد!

مشاركة :