هل يمكن أن نتخيل المشهد العربي في وضع أسوا مما هو عليه اليوم من انهيار الامن القومي والغذائي والمائي وانتشار للفوضى وامتداد للصراعات الدموية والتشرد والأوبئة والمجاعة والتخلف؟ قد يعتبر أكثر الخبراء براغماتية في قراءة الاحداث أن حال العرب اليوم بلغ القاع ولم يعد بالإمكان تخيل الأسوأ. ولكن في المقابل فان بعض الخبراء وهم الأكثر تشاؤما يعتبرون أن الأسوأ لم يحدث بعد وأن القادم قد يتجاوز كل التوقعات والرهانات. الواقع أن نظرة متأنية لما يعيشه العالم العربي تؤشر الى تناقضات صارخة وتغييب للإرادة وإصرار ممن يعتبرون أصحاب القرار في الأنظمة والحكومات العربية على الغرق في مستنقع الازمات وزرع اسفين الخلافات والانشقاقات والتنافس على التدمير الذاتي الممنهج واستثمار بقية من موارد وطاقات وثروات لاستنزاف الأوطان. ولو أننا حاولنا تشخيص هذا المشهد العربي من المحيط الى الخليج لوجدناه ضحية أبنائه وقياداته قبل أن يكون ضحية التواطؤ الأجنبي الذي لا يمكن انكاره والذي ما كان له أن يتلاعب بمصير الأمم والشعوب لولا توفر الأرضية والأسباب التي هيأت لمل نتابعه اليوم من استنزاف مستمر عابر للحدود من يمن موبوء بجروح غائرة من الحرب الطائفية المدمرة الى المجاعة والاوبئة والكوليرا التي تعبث بالارواح الى العراق الذي تحول الى بؤرة للدواعش بعد أن أصابه ما أصابه من أزمات وفتن الى سوريا الغارقة في دماء أبنائها ومصر المهددة في حدودها وأمنها وليبيا المستنفرة جراء انتشار واستفحال الجماعات المسلحة التي تمكنت حتى أنه لا يكاد يوجد استثناء عربي واحد ومن لم يعرف الكثير عرف القليل ومن لم يكن مرتعا مفتوحا للدواعش وما لف لفها من تنظيمات إرهابية ولم يعانِ من المخاطر الامنية والتهديدات الإرهابية عرف أهوال العمليات الإرهابية التي استهدفته في اقتصاده وأمنه وسياحته وثقافته واستقراره . في خضم هذا المشهد العربي المتآكل تفجرت أزمة القدس لتعيد الى السطح القضية الام التي أوشك النسيان أن يطويها وعادت أزمة الأقصى لتذكر الرأي العام الدولي والعربي بأن الامر يتعلق بقضية احتلال قائم منذ أكثر من ستة عقود وأن الامر ليس مجرد أزمة عابرة تتعلق بحق أقلية من المسلمين في الوصول الى مكان العبادة بالاقصى المبارك أو هذا على الأقل ما يجب أن يكون. ولعل ما يستوجب التوقف عند المشهد الفلسطيني الذي من شأنه أن يزيد المشهد العربي المتأزم تخبطا ما سجل حتى الان من ردود فعل عربية تذكر فلا تهاب أو تشكر. بل لعل من تابع بيان الأمين العام لجامعة الدول العربية وهو يردد بأن القدس خط أحمر قد أدرك أن ذلك هو أقصى ما يمكن أن يقدمه العرب في مواجهة مثل هذا الاختبار الذي يسقط مجددا بقية من ورقة التوت التي لم تعد تخفي عورة الفشل والضياع. تماما كما أن التحذيرات الموجهة لدولة الاحتلال التي تضمنها بيان الجامعة العربية بعدم الاستخفاف بالموقف العربي والإسلامي لا تخفي حقيقة ضعف الموقف العربي وغياب البدائل التي ضاعت بضياع البوصلة وتراجع القضية الفلسطينية عن المنابر الإقليمية والدولية وغياب ديبلوماسية عربية مشتركة وواضحة في التعامل مع الأطراف الدولية بدءا بالراعي الأميركي لما يعرف باتفاق السلام المؤجل مرورا بالاتحاد الأوروبي الذي يمتلك الكثير من وسائل الضغط على الاحتلال لا سيما ومنها الدور المتراجع للمجتمع المدني وللمنظمات الحقوقية المناهضة للاحتلال وصولا الى هيئة الأمم المتحدة التي عرفت الديبلوماسية الإسرائيلية كيف تخترقها وتستقطب الكثير من الدول الاسيوية والافريقية ضمن الجمعية العامة للأمم المتحدة دون أن ننسى طبعا الاتحاد الافريقي الذي ما كان لاحد أن يتخيل أو يتصور أن تتجرأ حكومة ناتنياهو على المطالبة بالانضمام اليه وفرض موطئ قدم لإسرائيل في القارة السمراء وكل ذلك طبعا الى جانب تراجع الديبلوماسية الفلسطينية في غياب الوحدة الوطنية وضياع الأهداف والاحلام بين فتح رام الله وحماس غزة . ولا شك أن الحديث عما بلغته القضية الفلسطينية نتيجة تشرذم وانقسام أبنائها مسألة لا تخلو من المرارة اذ يبقى الصراع القائم بين الاخوة الأعداء للفوز بسلطة وهمية تحت مظلة الاحتلال من أكثر الأمور التي تخدم أهداف الاحتلال وتجعله يستمر في مواصلة فرض سياسة الامر الواقع والمضي قدما في تنفيذ سياسة التهويد والاستيطان وعسكرة المدن والتضييق على الفلسطينيين في ابسط تحركاتهم اليومية حتى باتت حياتهم أشبه بحياة السجون. قد يستاء بعض الأصدقاء الفلسطينيين من هذا الكلام ولكن الحقيقة أن ما يحدث من انقسان بين غزة والضفة بات مثير للسخرية والاستهزاء وقد بتنا نسمع لعض التعليقات بأن الشعب الفلسطيني ناضل من أجل دولة فلسطينية ذات سيادة فبات له دولتان. ولاشك أيضا أن في تدخلات أطراف إقليمية ودولية دوره في تعقيد المشهد الفلسطيني والاستئثار بفصيل على الاخر وتعميق الخلافات بين فتح وحماس لتضيع القضية بين طهران والدوحة وانقرة من جهة ودبي والقاهرة من جهة أخرى وبدل أن يكون انهاء الاحتلال أولوية الأولويات نراه يتراجع ويتحول الى أخر الترتيب وكأنه اخر ما يمكن أن يشغل أصحاب القضية ومعهم أيضا القوى الإقليمية والدولية التي تدعي أنها معنية بانهاء الاحتلال. الى أين يتجه المشهد الفلسطيني؟ الأكيد أنه سيكون من الصعب قراءة ما ستؤول اليه تطورات الاحداث في القدس المحتلة والتي تجاوزت سلطة الاحتلال كما تجاوزت أيضا السلطة الفلسطينية وأصبحت بيد الشارع الفلسطيني الذي استنفر بكل مكوناته واجياله بمسلميه ومسيحييه دفاعا عن الأقصى ولا نراه يتراجع دون تحقيق أهدافه. والأرجح أن مؤشرات الانتفاضة الثالثة لم تعد مجرد تكهنات وأن سيناريو تدنيس البلدوزر شارون الأقصى سنة 2000 ليس بالبعيد وهي شرارة انطلقت ولن يكون من الهين اطفاؤها ودحر تلك الجيوش الفلسطينية المدنية من نساء ورجال التي خرجت الى الشوارع والصلاة في محيط القدس رفضا للبوابات الإلكترونية التي أقامتها الشرطة الإسرائيلية على مداخل الأقصى. طبعا لن ينتظر هؤلاء إشارة ولن يطلبوا اذنا من السلطة الفلسطينية في القطاع أو الضفة اومن جنود الاحتلال لاختيار طريق المقاومة الشعبية التي يريدونها لرد عدوان الاحتلال على ارضهم. وقد كانت تلك الصورة التي اجتاحت مختلف المواقع الاجتماعية في لحظات كفيلة بقراءة توجهات المشهد الفلسطيني فنحن إزاء شعب يتحمل الأذى وله قدرة عجيبة على الصبر والاحتمال التي توارثها على أرض الأنبياء والرسل. لقد أثبتت الاحداث الأخيرة أن أصحاب القرار على الأرض وفي الأقصى هم المقدسيون الذين لا يمكن للاحتلال أن يسحب هوياتهم أو يدفعهم للترحيل الجماعي الذي كان في الماضي القريب سلاح إسرائيل لفرض هيمنتها على القدس وعلى المواقع المقدسة ولكن في المقابل يمكن للاحتلال المضي قدما في ممارسة الضغط على المقدسيين بطريقة منفردة كعدم منحهم الرخص لاصلاح او تجديد البناءات او الاستحواذ على البناءات التي غاب عنها أصحابها. قرار البوابات الالكترونية سيكون عنوان الانتفاضة القادمة الرافضة لكل قيود الاحتلال مهما تعززت قدراته العسكرية وهي انتفاضة لا نخال أن للموقف أو القرار العربي الرسمي موقع أو وزن. وقد لا يكون من المبالغة في شيء الإقرار بأن شأن العرب اليوم شأن القائل "اني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل والدين". وفي انتظار أن يتضح المشهد في السفارة الإسرائيلية بالأردن والحقيقة بشأن ملابسات اغتيال اثنين من العمال الأردنيين على يد حارس إسرائيلي بداخلها والموقف الأردني من هذا العدوان فان المشهد قد يتجه الى انفجار وشيك يربك دولة الاحتلال التي كانت مطمئنة بأنها ستظل المستفيد الأول من كل الصراعات المتأججة في المنطقة وحولت الدول التي كان يمكن ان تشكل خطرا على إسرائيل محرقة لابنائها بما يجعل إسرائيل بمنأى من نيران ما يحدث في الجوار السوري وما يحدث في لبنان والعراق. ولسنا نبالغ اذا اعتبرنا أن ألازمة الراهنة بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر من جهة وبين قطر من جهة أخرى قد زادت المشهد هشاشة وضعفا على ضعف أمام التحديات والمخاطر المتفاقمة وهي أزمة من الواضح أن الكل فيها مغلوب على أمره وأن من يدير خيوط اللعبة يدرك جيدا أن الرغبة على التدمير الذاتي هي التي تقود قيادات دول المنطقة التي تتنافس على اقتناء وتكديس السلاح واعمار مخازنها بما يعزز قدراتها العسكرية لتهديد بعضها البعض وقد كان بإمكان الدول المعنية ومنذ اللحظات الأولى تطويق نذر الازمة وتوخي الحكمة المفقودة واستعادة البوصلة باتجاه المصلحة المشتركة لقطع الطريق أمام شبكات الدواعش ومموليهم وداعميهم من مزيد الدمار. وفي انتظار ما ستنتهي اليه الازمة بين دول مجلس التعاون الخليجي ستبقى رقصة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالسيف خلال القمة العربية الإسلامية الامريكية في الرياض فاصل بين مرحلة ما قبل زيارة الرئيس الأميركي وما بعد زيارته الى المنطقة التي لا يبدو ان التحولات التي ستعيش على وقعها قريبة من نهايتها. اسيا العتروس إعلامية تونسية atrousessia16@yahoo.fr
مشاركة :