في الاقتصاد الكلي هنالك سياستان تتحكمان في اقتصاد الدولة؛ وهما السياسة المالية والسياسة النقدية، وكلتاهما تهدفان إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي بمعدلات نمو معقولة ومستهدفة عبر التحكم في الأسعار، والتوظيف الكامل لعناصر الإنتاج. وعليه يتم استخدام هاتين السياستين إما لتحفيز الاقتصاد؛ أو ما يسمى السياسة التوسعية، وإما لكبح جماح الاقتصاد؛ أو ما يسمى السياسة الانكماشية لمعالجة التضخم غير المرغوب، ومن الطبيعي أن يكون التوجه في استخدامهما في الاتجاه نفسه لتحقيق الفائدة المطلوبة. تواجه السعودية اليوم، معضلة معقدة في طريقة استخدامهما في حالة الاقتصاد، حيث إن السياسة المالية تتجه نحو السياسة الانكماشية بفعل الإصلاحات الحاصلة اليوم من جراء برامج التحول الوطني والتوازن المالي، من ترشيد الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب ورفع الدعم، بحيث تم استخدام أغلب أدوات السياسة المالية في تحقيق سياسة انكماشية. وعلى الجانب الآخر، بسبب ارتباط الريال بالدولار تتجه السياسة النقدية، وخصوصا مع أداة سعر الفائدة "الريبو العكسي" نحو السياسة الانكماشية، عبر رفع أسعار الفائدة وبيع مزيد من السندات الحكومية في السوق، وهو ما سيعمل على تجفيف السيولة من السوق على الفترتين المتوسطة والطويلة. إذن جميع السياسات "المالية والنقدية" تتجه نحو تحقيق انكماش في الاقتصاد وتراجع في الأسعار، وهذا ما تحقق في أول المؤشرات الاقتصادية، وهو مؤشر التضخم، حيث تراجع للشهر السادس على التوالي كمؤشر غير جيد عن الاقتصاد، وكذلك التراجع الحاصل في نمو الناتج المحلي. وحسب ما ذكر صندوق النقد الدولي أن نمو الناتج المحلي الحقيقي سيقترب من الصفر هذه السنة. إذن نحن اليوم أمام سياسة انكماشية وفي الوقت نفسه لدينا تضخم سلبي مستمر منذ بداية هذه السنة، مع ضعف في نمو الناتج المحلي "متوقع"، مما يجعل حالة الاقتصاد فريدة ويزيدها تعقيدا، فهذه السياسة الانكماشية لا تطبق إلا في حالة وصول التضخم إلى معدلات عالية خارج نطاق المستهدف، لكن مع حالة التضخم السلبي فإن هذه السياسة ستزيد من عمق التضخم السلبي، وقد تؤدي في نهاية الأمر إلى انكماش اقتصادي يضرب كل مناحي الأنشطة الاقتصادية، وعند الرجوع إلى البيان الصادر عن مشاورات صندوق النقد الدولي مع المملكة، نلاحظ أنه يتوقع عودة التضخم إلى النمو لكن ليس بسبب عودة الإنفاق أو الحركة الطبيعية للاقتصاد، بل بفعل التضخم من ارتفاع الأسعار جراء الضرائب، وهو أمر بكل تأكيد ليس هو الحل لعودة التضخم إلى مساره الصحيح، وإن كنت لا أعلم حقيقة المعدل المستهدف من قبل المسؤولين حتى نقيم الوضع بشكل أفضل. وبالعودة مرة أخرى إلى البيان نجد التباين بين المديرين التنفيذيين حول وتيرة التدرج في الإصلاحات المزمع تنفيذها من السعودية، حيث أشار "معظمهم" إلى إمكانية التدرج في الإصلاحات بوتيرة أقل من الحالية، في إشارة إلى حدة الإصلاحات على النشاط الاقتصادي، وخصوصا في ظل وجود احتياطيات ملائمة تملكها السعودية، بينما أشار البقية إلى المخاطر التي قد تحدث في حال تخفيض وتيرة الإصلاحات، لكن وعلى كل حال الجميع اتفق على ضرورة مراقبة السعودية برامجها الإصلاحية واتخاذ إجراءات إصلاحية إذا اقتضى الأمر. في نظري أتفق مع آخر فقرة وتوصية وأرى في الوقت نفسه أن التدرج بوتيرة أقل أفضل، عطفا على المؤشرات الاقتصادية السابقة من التضخم السلبي إلى تراجع نمو الناتج المحلي، وأخشى أن ندخل في تسجيل أول نمو سلبي في الناتج المحلي في الربع الأخير أو السنة المقبلة في حال استمرت السياسة المالية بنهج الانكماش، وخصوصا في جانب الإنفاق الحكومي، وبالذات الإنفاق الرأسمالي، الذي حسب بيان وزير المالية في تعليقه على أداء الميزانية في الربع الأول من هذه السنة، كان ضعيفا جدا، على الرغم من تلميح الوزير إلى اختلاف الأداء في باقي السنة. من الواضح أن مزيدا من الضغوط لرفع الفائدة هذه السنة والسنة المقبلة سيكون واقعا وعامل ضغط على السيولة وعلى التضخم من جهة أخرى، مما يعنى لزاما ضرورة التدخل وتعديل السياسة المالية لتأخذ نهجا أكثر توسعا "بزيادة الإنفاق" لدعم الاقتصاد وتخفيف آثار الضغط الناتج من السياسة النقدية الحاصلة من ارتباط الريال بالدولار، طبعا زيادة الإنفاق يعني زيادة العجز وتلك مشكلة أخرى، ولذلك بينت أن الوضع الحالي معقد وكي تغطى الحكومة العجز إما أن تسحب من الاحتياطي وإما أن تستدين أو كليهما، لكن الاستدانة من الداخل ستعيدنا إلى المربع الأول وهو سحب السيولة مرة أخرى، ولذلك أي خطط استدانة يجب أن تشمل استهداف المستثمرين في الخارج، وخصوصا بعد النجاح الكبير الذي تحقق في السابق. ختاما، إن مراقبة الاقتصاد ومؤشراته في هذا الوقت الحساس كما أشار بيان صندوق النقد مهمة جدا، والتدخل في الوقت المناسب ضروري حتى يتم ضبط الاقتصاد وتصحيح مساره إلى معدلات النمو المستهدفة سواء في نمو الناتج المحلي الحقيقي أو الناتج غير النفطي أو عودة الاستقرار إلى مؤشر التضخم واستقراره عند معدلات مقبولة.author: عبدالله بن عبدالرحمن الربدي
مشاركة :