تشكل إيرادات النفط المقومة بالدولار مصدراً أساسياً إذا لم نقل وحيداً في تحديد قدرة الدولة في العراق على تمويل الطلب المحلي على العملة الأجنبية. ولأنَّ موارد النفط هي ملك عام في دولة يمكن اعتبارها ريعية بالكامل، أي تعتمد على موارد بيع النفط في مجموع إيراداتها وبالتالي في قدرتها على الإنفاق، أدى تحسن موارد النفط بعد رفع الحصار الاقتصادي عن العراق تزامناً مع الاحتلال في 2003، إلى زيادة كبيرة في حجم الإنفاق الحكومي الذي ارتفع من 31 تريليون دينار (27 بليون دولار) في 2004 إلى أكثر من 100 تريليون دينار في السنوات الأخيرة. ولأنَّ الإنفاق الحكومي كان معظمه استهلاكياً وحتى الذي خصص منه للاستثمار لم يكن يصرف عليه، رفعت زيادة الإنفاق الحكومي الاستهلاك بشقيه العام والخاص، وبسبب ضعف القاعدة الإنتاجية في العراق لأسباب عدة كان السبيل الوحيد لمواجهة الزيادة في الاستهلاك هو الاستيراد. ولأنَّ المصرف المركزي العراقي، كما يحدد قانونه، هو الجهة الوحيدة المخولة إصدار العملة المحلية وهو في الوقت نفسه مصرف الدولة، تودع وزارة المالية ما تستلمه من عملة أجنبية من بيع النفط لديه، وبذلك يستلم المصرف المركزي العملة الأجنبية من وزارة المالية ويضع في حسابها عنده عملة محلية يجري إنفاقها كلما أصدرت الوزارة أمراً بالإنفاق. وبسبب الوفرة في موارد النفط في السنوات التي أعقبت الاحتلال وحتى 2014، لم يواجه العراق مشكلة في توفير العملة الأجنبية لتمويل الاستيراد كما لم تحتج الحكومة إلى الاقتراض من المصرف المركزي، خصوصاً أن القانون الجديد للمصرف الذي صدر بعد الاحتلال يمنع استدانة الحكومة من المصرف لتمويل إنفاقها. لكن المشاكل الحقيقية للاقتصاد العراقي مثل الإسراف في الإنفاق الاستهلاكي، وإهمال الاستثمار والقطاعات الإنتاجية عدا النفط، وتشريع أبواب الاستيراد عند كل المنافذ الأمر الذي قتل الصناعات المحلية حتى البسيطة منها، وإنشاء أكثر من 50 مصرفاً خاصاً تحوم حول جدواها كثير من الشكوك وحول طبيعة أنشطتها كثير من الاتهامات ولم تأخذ الاهتمام اللازم من السلطتين التشريعية والتنفيذية إذ كانت تغطي عليها موارد النفط الوفيرة، برزت كلها على السطح بعد الانخفاض الكبير في أسعار النفط العالمية في منتصف 2014، وبالتالي انخفاض حجم الإيرادات الوحيدة تقريباً للحكومة وهي إيرادات النفط، وكأن ما حصل كان الصدمة اللازمة لتوعية الحكومة إلى ما جرى اقترافه بحق الاقتصاد العراقي على مدى 11 سنة. وبدأت منذئذ الاقتراحات والتنظيرات التي تطالب الحكومة بالاهتمام بالمشاريع الإنتاجية المحلية وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال منحها الفروض الميسرة ومراقبة أنشطة المصارف الخاصة، خصوصاً في ما يتعلق بتصرفها بالعملة الأجنبية التي تشتريها من مزاد العملة، وعدم ترك المصارف الحكومية تستحوذ على معظم الودائع وتشجيع القطاع الخاص على زيادة التعامل مع المصارف، خصوصاً الخاصة منها، وضرورة تمسك المصرف المركزي بقانونه الذي يمنع إقراض الحكومة، ويعتقدون بأنَّ هذه المقترحات يمكن وضعها موضع التنفيذ بمجرد صدور قرارات رسمية بها. إنَّ المصرف المركزي الذي يؤدي في العادة دوراً مهماً في وضع السياسات الاقتصادية الناجحة وتنفيذها من خلال دوره في وضع السياسة النقدية الملائمة، يمكن اعتباره في وضع لا يحسد عليه في ظل الظروف الحالية في العراق. فالمصارف الخاصة لم تنشأ كمصارف بالمعنى الحقيقي لها، وإنما منافذ تسيطر عليها بعض الجهات السياسية المتنفذة تحصل من خلالها من مزاد العملة على عملة أجنبية ليس فقط لأغراض الاستيراد وإنما لأغراض أخرى أيضاً. ويمنع النفوذ السياسي لأصحاب هذه المصارف رقابة المصرف المركزي على أنشطتها أو على اتخاذ سياسات لتصويب هذه الأنشطة، وهذا هو أحد الأسباب التي تمنع المصرف المركزي من ربط الاستيراد بفتح الاعتمادات المستندية بدلاً من الوضع الحالي. كما أنَّ ضعف ثقة الأفراد بالجهاز المصرفي في ظروف أمنية وسياسية صعبة يدفعهم إما إلى الابتعاد عن التعامل مع المصارف ككل أو على الأقل عدم التعامل مع المصارف الخاصة وهو أمر لا يستطيع المصرف المركزي أنْ يعمل شيئاً لمعالجته لأنَّ التعامل مع المصارف يقوم على الثقة والأخيرة لا تُفرَض فرضاً. أما عن ضرورة التزام المصرف المركزي بقانونه لجهة الامتناع عن إقراض الحكومة فهو أمر صعب التحقيق في ظروف العراق الحالية. ففي دولة ريعية تعتمد في إيراداتها بالكامل على صادرات النفط، من الصعوبة إيجاد بدائل عن الاقتراض من المصرف المركزي في حالة انخفاض عائدات الصادرات النفطية، كذلك صعوبة الاقتراض الداخلي والخارجي لعوامل تتعلق بالثقة وارتفاع الكلفة، وهنا لا يعود أمام المصرف المركزي إلا أن يقوم هو نفسه بإقراض الحكومة، فسلطة الاحتلال التي وضعت قانون المصرف المركزي ونصت فيه على عدم جواز إقراض الحكومة، لم تهيئ الوضع السياسي والاقتصادي الملائم للالتزام بهذا النص.
مشاركة :