في بدايات رحلة الابتعاث والدراسة بأمريكا أذكر جيدا حينما طلبت معلمة اللغة من الطالبات والطلبة الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 20-35 عاما كتابة تعريف موجز عن أنفسنا بالاستعانة بما تعلمناه خلال الدرس من مفردات ومعانٍ جديدة، الغالبية العظمى منا اختارت منتصف العمر كوصف للمرحلة العمرية التي نحياها، وبعد أن اطلعت المعلمة على اختياراتنا، ضجت بالضحك على تقديمنا لأنفسنا كطلاب في منتصف العمر، وطفقت تشرح لنا أن متوسط العمر يطلق لمن هم في أواخر الأربعينات، وأننا ما زلنا «صغاراً». الأغرب أننا نشعر بالتقدم بالسن، على الرغم أننا لسنا من هواة الحساب الصيني والكوري، الذي يضيف لعمر الإنسان سنة أو سنتين، فالجنين قد تحسب له سنة أو سنتين بمجرد أن يخرج من بطن أمه وفقًا لاعتقاد موروث، وبالمقابل السعودي يخرج للدنيا بلا عمر مضاف وتضيف عليه ثقافته الموروثة مزيجًا من الإحساس بالكهولة رغمًا عنه، في تحريم للمباح من قول أو فعل يتناسب مع صحته وقدراته العقلية والعاطفية. الثقافة المحلية حقيقة هي من زرعت تلك الصورة الذهنية عن التقدم بالعمر والإحساس بالكبر، وأحيانا بالشيخوخة مع أننا ما زلنا في بداية العمر، وبداية التوهج والعطاء. ولو أمعنا النظر للاختلاف الثقافي في مسألة العمر، لوجدنا كيف ألقت بظلالها على الصورة الذهنية المحلية والعربية أيضًا لكل عقد من أعمارنا، وحالة القلق والخوف والترقب من التقدم بالسن، أو الإفصاح عن العمر الذي يعتبر من الأسرار العسكرية غير القابلة للإفصاح والتداول، بسبب الصورة النمطية المرتبطة بالتقدم بالسن سواء للرجل أو المرأة. والواقع أن الصورة النمطية تسهم في تقييد الحياة الطبيعية لمن هم في منتصف العمر، أو نهاية العمر لكلا الجنسين خصوصًا للمرأة، فالمتقاعد لا يسلم من النكات المتداولة بين أقرانه أو المحيطين به في تصور حياته بعد العمل، التي ستنحصر في الإشراف على فتح وإغلاق المكيفات والإضاءات في المنزل، والتدخل بشؤون المطبخ، وفي أحسن الأحوال الانشغال بزيارة العيادات الطبية، لعل وعسى أن يصلح الطبيب ما أفسده الدهر. وفي حال المرأة نجد أن مناقشاتنا اليومية خير شاهد على حالة التردي والبؤس عند من يناقش سيدة أو فتاة في منتصف العمر ونعتها بـ «العجوز» لإسكاتها، لضعف حجة أو تفاهة من تحاور، في ترك الفكرة والتركيز على البعد الجسماني في التنصل من الحوار والنقاش. وفي عصرنا الحاضر نجد أن الشيخوخة النفسية قد تلبست الشباب قبل المسنين في مفارقة عجيبة، بسبب الأحداث السياسة والاقتصادية وبالطبع الثقافة المحلية، التي تحرض مبكرًا على الإحساس بالكبر جسدًا وفكرًا، وتطالب الطفل في طفولته بتقمص دور الناضج والحكيم قبل أوانه. الملاحظ اليوم أن التجارب الفردية القليلة للأفراد وللمثقفين في شبكات التواصل الاجتماعي وفرت مصدرًا هامًا وجديدًا في تمتع المسن والمتقدم بالسن بحياته، من خلال تدوين تجاربهم الشخصية في مزاولة الأنشطة والهوايات والاهتمامات بعد حصولهم على التقاعد، ونشر يومياتهم في نمو ملحوظ لظاهرة إيجابية، ونشر ثقافة جديدة عبر قادة الرأي في المجتمع. ولعل أبلغ ما قرأت في بث روح الحياة تغريدة الزميل الكاتب سعد الدوسري وهو يمتطي صهوة التمتع بالعمر الجديد والمديد بعد رحلة الكفاح «الحياة تبدأ في الستين»، عبارة ملهمة أتمنى أن تشق طريقها كعنوان مشرق لرواية وثقافة جديدة، أو مبادرة لتحفيز المتقاعد على التخطيط والتمتع بجمال كل مرحلة عمرية من مراحل الحياة.
مشاركة :