إن قضية الأقليات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية، بشكل عام، تتسم بدرجة عالية من الحساسية، وينظر لها رغم أهميتها على أنها مسألة خطيرة، لذلك فإن مقاربة هذا الموضوع الشائك تحتاج الكثير من الدقة والروية والموضوعية والانضباط المنهجي، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي تشهد عولمة اقتصادية وتوحُّش الرأسمالية الصناعية التي حولت أربعة أخماس سكان الكون إلى مستهلكين يلهثون خلف توفير مقومات الحياة التي حددت أنماطها ديكتاتورية الأسواق العالمية، بذريعة تحقيق الديمقراطية في المجتمعات الناشئة، وتحت شعارات حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص. إن العناصر المتشابكة والتعقيدات التاريخية في مسألة الأقليات تشكل واحدة من أهم الصعوبات أمام أي باحث يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، وتضعه أمام تحديات وخيارات دقيقة، فإما أن تكون مع الليبرالية الجديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، من خلال تبني براغماتية منفعية مقترنة مع دوغمائية لا تريد أن ترى إلا جانباً واحداً من الموضوع، وإما أن تكون في مواجهة التحديات، وأن تكون ضد إعادة ترتيب المجتمعات البشرية بما يتوافق مع المفاهيم الجديدة التي ينتجها الاقتصاد العابر للقارات، وبذلك قد تجد نفسك متهماً بتجاهل حقوق الأقليات والتفريط فيها، أو التوجس منها في الحد الأدنى. يشهد العالم، خلال العقود الأخيرة، عولمة اقتصادية -تؤسس لعولمة ثقافية واجتماعية- تعتمد على مبدأ توحيد الاقتصادات الوطنية ودمجها في الاقتصاد العالمي الذي تسيطر عليه الشركات العملاقة، المتعددة الجنسيات (عابرة للقارات) التي تسعى خلف تكديس الثروات من خلال اعتماد سياسات اقتصادية تفترس الأضعف، وأهمها الشركات الأميركية المنفلتة من عقالها. وتستخدم هذه الاقتصاديات الثورة الإعلامية والتقنية والتقدم الهائل الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، وتوظفها من أجل تحقيق أهداف الاحتكارات الكبرى في تفكيك وتفتيت البِنى الوطنية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتمزيق روابط الدولة الوطنية، وتقويض ركائز الهوية القومية، من خلال أساليب متعددة، لعل أهمها محاولة إحياء الهويات ما قبل الوطنية، بهدف جعلها بديلاً عن علاقات المواطنة التي هي أساس قيام الدولة الحديثة التي حلت قضية الأقليات حلاً ديمقراطياً. ويمكن تصنيف المجتمعات البشرية إلى 3 نماذج، من حيث التنوع الديني والمذهبي والقومي والعرقي واللغوي والثقافي، أولاً: المجتمعات التي تحتوي فسيفساء ومجموعات وكيانات غير قابلة للاندماج بعضها مع بعض، وثانياً: المجتمعات التي تضم مجموعات نقية من حيث العرق أو القومية أو الدين، وهي مجتمعات صافية لا وجود للأقليات فيها، وبين هذين الحدّين تقع المنطقة التي تضم المجتمعات القائمة على التنوع والتعدد العرقي والديني والمذهبي، وهي مجتمعات قابلة للاندماج فيما بين مكوناتها. الدول العربية باستثناء لبنان، تقع ضمن التصنيف الثالث، فالمجتمعات العربية تتسم بالتنوع الديني والمذهبي والعرقي والقومي واللغوي والثقافي، ورغم هذا التنوع والتعدد فإنها مجتمعات قابلة في الوقت ذاته للانصهار والاندماج فيما بينها، تظل الحالة اللبنانية عربياً تحتاج إلى البحث عن حلول ومخرجات علمانية ديمقراطية جذرية؛ كي لا يظل الوضع في لبنان كالقنبلة الموقوتة تنتظر إشعال فتيلها. لقد قطعت المجتمعات العربية خطوات مهمة في طريق الاندماج الاجتماعي والوطني لبناء دولة المواطنة الحديثة، وهذه المجتمعات كانت قد صدت محاولات الاستعمار المباشر كافة في تقسيمها إلى دويلات متناحرة، وظلت مع مرور الوقت عصيَّة على التفتيت وحافظت على وحدتها الوطنية. إن قيام الفكر القومي التقليدي والقوميين الجدد بتجاهل موضوع الأقليات، من خلال الهروب إلى الأمام وعجزه عن ملامسة ملامح الإشكالية، واتهام الخارج بأنه من يسبب الاضطرابات والأزمات الداخلية في بعض الدول العربية، متناسياً أن وجود الأقليات في هذه الدول أقدم من مرحلة الاستعمار، ويغيب عن هذه الأنظمة أن عدم وجود رؤية موضوعية للتعامل مع الأقليات ومع خصوصياتها هو ما يجعل من هذا الموضوع مشكلة، وأن المقاربات غير الديمقراطية هي ما يجعل من مسألة الأقليات أزمة داخلية، وهي ما يوفر عوامل انفجارها، ويمهد الطريق للتدخلات الخارجية. نحن أمام قضية تعود جذورها التاريخية إلى مرحلة ما قبل الفتوحات الإسلامية، إن ظهور الإسلام وانتشاره انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية لم يلغيا الديانات والمذاهب التوحيدية الأخرى؛ بل جُعل أتباع هذه الديانات في ذمة المسلمين؛ ذلك لأن الدين الإسلامي هو دين يقوم على التوحيد والوحدة والتعدد. إلا أن الانشقاق الذي حصل بين صفوف المسلمين على أثر معركة "صفين" أو ما يعرف بالفتنة الكبرى في عام 37 هجرية، كان من نتيجة هذه الحرب ظهور مذاهب إسلامية جديدة، تعمقت الاختلافات فيما بينها مع الوقت حتى وصلت لقضايا العقيدة ذاتها. ثم دخل الإسلام أمم وأقوام شتى، تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الإثنية أو اللغوية الثقافية، وضمت الدولة ثم الإمبراطورية الإسلامية مللاً وديانات ومذاهب وقوميات وأعراق مختلفة ومتعددة، دخلت جميعها في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي الإسلامي بشكل كلي أو جزئي، واستمرت حالة التعايش بين هذه المكونات عقوداً طويلة، ومع قيام دولة الخلافة العثمانية ظهرت الدولة المركزية العسكرية، وبدأت قضية الأقليات بالظهور وأخذ بعض أركان دولة الخلافة في تسييس هذا الموضوع، الذي تعمق أكثر مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور النظام الرأسمالي الذي ابتدع نظام حماية الأقليات، وجاء الاستعمار الكولونيالي لتنتشر سياسة فرِّق تَسُد. إن مرحلة الاستعمار في العالم العربي شهدت تأثر المنطقة ببعض إنجازات الثورة البرجوازية الديمقراطية الأوروبية، ومنها قضايا حقوق الإنسان التي تم سنُّها في الدساتير الأوروبية، وتعامل الاستعمار مع الأقليات بصورة تُظهره على أنه حامي مصالحهم ووجودهم، وفي بعض الدول حاول المستعمر دمجهم قومياً عبر تشريعات، لكن الأكثرية الإسلامية رفضت وتصدت لهذه المحاولات؛ بسبب رفضها أساساً الاستعمار على أراضيها؛ ومن ثم رفضها لأي سياسات يحاول فرضها عليهم. ثم إن الأكثرية المسلمة رفضت أيضاً محاولات الاستعمار تغريب المسيحيين المشرقيين، هذا الأمر خلق نوعاً من التصادم بين المجتمعات العربية المسلمة التقليدية، والأفكار الغربية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تعقيد مسألة القوميات، ووضع العراقيل أمام الحلول الديمقراطية لاندماج هذه الأقليات بمجتمعاتها، وهكذا ظلت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولاً تضم مجتمعات تعاني أزمات معلَّقة مربكة وملفات مفتوحة لا تتوافر ظروف معالجتها وإغلاقها، وأهمها قضية الأقليات. وهكذا، وجدت هذه المجتمعات أنها غير قادرة على العودة إلى نظام الذمة القديم في عهد الدولة الإسلامية، ولا هي قادرة على القيام بثورة ديمقراطية تؤسس لمعالجة جذرية سلمية وعصرية وديمقراطية لقضية الأقليات، وهذا واحد من أهم الأسباب التي جعلت من هذه الإشكالية في العالم العربي أزمة طائفية طاحنة تلخص أزمة الأمة، وتحتوي فتيلاً قد يشتعل في أية لحظة ويحرق اليابس وما بقي من الأخضر في عموم المنطقة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :