قراءة على سبيل التمهيد لكن ما الذي جعل موضوع الأقليات في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتضخم ويتخذ هذا القدر من الحدة القابلة للتفجر؟ في ظننا أن الحقبة التي تم فيها اكتشاف البترول شكلت بداية ما أسميه سلسلة من الانتكاسات تعرضت لها عموم المنطقة؛ حيث أعقبتها استهدافات متتالية لم تتوقف لغاية الآن من قِبَل القوى الاستعمارية العظمى هدفها السيطرة على ثروات المنطقة ونهبها، وكذلك السيطرة على عقد المواصلات والمعابر المائية التي تضمن للدول الغربية استمرار تدفق النفط، وصول بضائعها إلى الأسواق المستهدفة. فظهرت شعارات "حماية الأقليات" و"حقوق الأقليات"، وهي شعارات تعني أن هذه الأقليات مهددة من "الأكثرية"، ويصار إلى الإشارة للأقليات بالاسم الواضح من حيث العِرق والدين والمذهب واللغة والثقافة والتاريخ، ويشار إلى أنه في المقابل توجد أكثرية كتلة واحدة كبيرة ومتجانسة تهدد الأقليات الصغيرة والضعيفة. لكن في واقع الأمر ليس هناك أكثرية واحدة في العالم العربي، ولا توجد أقليات ثابتة من حيث التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا يمكن تصوير الأمر على أنه لدينا أقلية تواجه أكثرية ثابتة. إن الواقع في المنطقة يشير إلى وجود أكثريات وأقليات متنوعة بتنوع المعايير والمقاييس التي يعتمدها طرف من الأطراف للتمييز فيما بين هذا التنوع، فإذا كان معيار التمييز إثنياً قومياً كانت الأكثرية عربية والأقليات أمازيغية، وكردية وأرمينية وآشورية وسريانية وتركمانية وشركسية وشيشانية. وإذا كان المعيار دينياً فإن الأكثرية مسلمة، والأقليات مسيحية وأيزيدية والصابئة المندانيون واليهود. أما إن كان المعيار مذهبياً فالأكثرية سنية، والأقليات درزية وعلوية وشيعية وإسماعيلية. في الوطن العربي تعدد وتنوع واختلاف وتعارض، في الوطن العربي جماعات قومية ولغوية ودينية وثقافية ومذهبية وعرقية وإثنية وطوائف وطرق صوفية يوجد مسلمون ومسيحيون ويهود وأيزيديون وغيرهم، لكن المهم والأهم الإيمان أنه لا وجود لتعدد وتنوع من غير وحدة، ولا وجود لاختلاف وتعارض من غير تماثل وتشابه، وهذه الرؤية تجاهلها المستشرقون وتجاهلها الغرب ويتم تجاهلها من قِبَل المستغربين الجدد الذين شرعوا في التقوقع داخل مجتمعاتهم وقاموا بهدم الجسور التي تربطهم مع الشرائح الاجتماعية الأخرى "الأكثرية" بدلاً من تعزيز وتقوية قنوات التواصل، وبدأوا بالتحريض ضد ما يعتبرونه الأكثرية لإثارة الفتنة بين مكونات هذه المجتمعات بهدف تمزيق أواصر ترابطها كخطوة نحو المطالبة بالانفصال. إن حقوق الإنسان في ظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأميركية؛ لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول إن الأمازيغ في دول الشمال الإفريقي ليسوا فقط مختلين عن العرب، بل مختلفين حتى فيما بينهم أيضاً؟ ومن يقول إن العرب مختلفون فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفون كعرب فيما بينهم؟ وكذلك حال المسيحي واليهودي والآشوري والتركماني والأرمني والشيعي والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين، لكنهم أيضاً مختلفون فيما بينهم بنواحٍ عديدة. كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هو اختلاف طبيعي وموضوعي وإنساني، لكنه يفترض المساواة أخلاقياً وقانونياً، فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة مدنية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز. إن المساواة البشرية في الحقوق والواجبات في هذه المجتمعات لا تعني بأي حال إلغاء الفروق بين مكونات المجتمع؛ لأن إلغاء الفروق يؤدي إلى العدم والقفز في الهواء، فالمساواة الوطنية أمام القانون هو مفهوم قائم على مبدأ تساوي جميع أنواع إطلاقاً، والعلاقة بين المساواة والاختلاف هي نفسها العلاقة بين الذات والوجود، ومن هنا فإن قضايا حقوق الإنسان برمتها يمكن مقاربتها ضمن سياق هذه المفاهيم الديمقراطية، وما حقوق الأقليات سوى غصن من الأغصان. إن الاختلاف في الوطن العربي كما بقية العالم هو واقع موضوعي، والعبرة تكمن في إدراك الأقليات لاختلافهم بشكل علمي وحضاري وديمقراطي ضمن إطار دولة المواطنة، باعتبارهم مواطنين على ذات الدرجة من المساواة في الحقوق والواجبات مع الأكثرية، وليس باعتبارهم أقلية عرقية أو دينية، ودون إذكاء الروح القومية والعصبية لديها، وإدراك الجماعات الأخرى لهذا الاختلاف واحترامه، والعمل سوياً من أجل تعزيز التلاحم الوطني الداخلي فيما بينهم. إن حرمان الأقليات من حقوقها من قِبَل الأكثرية من شأنه أن يؤدي إلى عزلة هذه الجماعات عن المجتمع، ويولد لديها وضدها نعرات قومية ودينية، وقد تبدأ هذه الأقلية في بناء الأسوار كي تحمي نفسها وتحاول أن تحفظ حقوقها ومصالحها، لكنها سوف تجد نفسها سجينة داخل هذه الأسوار، وهكذا تنشأ الحواجز الاجتماعية فيما بين الجماعات المكونة للمجتمعات، وتنغلق هذه الجماعات على نفسها، حينها لا يمكن أن ترى هذه الجماعات سوى مصالحها الخاصة، ولا ترى في مصالح الآخرين سوى أنها عقبات وإشكاليات يتوجب إزالتها، وهكذا تنمو مصالح ومفاهيم جديدة يصبح مع الوقت من الصعب إدماجها في المجتمعات، وهنا تبدأ الأيديولوجيات المنغلقة بالظهور، وتجد مَن يعمل على نشرها وترويجها، وتجد العديد من الناس ممن لديه الاستعداد للقبول بها على أنها حقائق ومسلّمات، متغافلين عن البديهيات التي تؤكد أن العلاقات الاجتماعية دوماً تحتوي في طياتها آليات معقدة وعناصر متعددة ومركبة، تتضمن قابليات التماثل للاندماج والوحدة، وكذلك عوامل التنافر والإقصاء، ولذلك فإن مسألة الأقليات ليست مرتبطة بكيانات منغلقة ومنعزلة، ولا بهويات ثابتة، ولا بمكونات حجرية، بل أنها ترتبط بنمط وشكل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ومستوى تطور هذه العلاقات، وكذلك بمستوى الوعي الاجتماعي والحياة المدنية في هذا المجتمع أو ذاك. تتفاقم مسألة الأقليات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أعمال العنف السياسي وعدم الاستقرار في هذه المجتمعات، وفي الغالب فإن أهم أسباب تفجر العنف يعود إلى فشل الأنظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية التاريخية، وبالتالي عجز هذه الحكومات عن تقديم حلول جذرية لهذه القضية بدلاً من المحاولات المستمرة لاحتوائها وتجاهل الأسباب الموضوعية الكامنة وراء تصاعد العنف، وهناك أسباب أخرى متعلقة بظهور خطاب قومي متطرف ومتشدد لدى بعض قادة الأقليات يدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، ويتبنى العنف في مواجهة الدولة، ويحرض على عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي يولد خطابات متطرفة من الجانب الآخر، وهو ما يدخل هذه المجتمعات في دائرة الفوضى والفشل. إن الاكتفاء بالمقاربات الأمنية فقط لمعالجة قضية الأقليات، دون الالتفات إلى خلفيات ومسببات الاحتقان الاجتماعي لدى الأقليات، سوف يؤدي إلى تراجع هذه القضية ثم إلى ظهورها مرة أخرى بشكل أزمة أشد خطراً مما كانت عليه. إن الأقليات في هذه المنطقة جزء مهم ومكون رئيسي من هذه المجتمعات التي يفترض أن تستمد قوتها من تعددها الديني والعرقي واللغوي والثقافي، ويجب أن يكون هذا التنوع سبباً لإثراء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإغناء لقيم المواطنة والتسامح والانفتاح، بدلاً من الانغلاق والتعصب والشعور بالدونية أو التعالي. يحتاج الفكر القومي المشرقي عامة -بما ذلك سكان شمال إفريقيا- والعربي خاصة إلى التحرر من هاجس وعقدة المؤامرة، كي نتمكن من تأكيد الطابع الإنساني للأكثرية التي تنتمي مع الأقلية إلى الدولة الحديثة باعتبار الجميع مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتصان كرامة الجميع وحقوقهم الأساسية في دساتير تنظم مجتمعات متمدنة لا فضل فيها لأحد على أحد. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :