كما لعبت القمصان والرؤي أدواراً محورية في تصاعد الأحداث بسورة يوسف وإضافة عنصر التشويق إلى القصة، لعبت كذلك الاتهامات والتحقيقات وتوالي ظهور البراءات الدورَ نفسه، فأضفت على القصة مزيداً من الإثارة ووضعت المتابِع للقصة في حالة ترقُّب لما ستؤول إليه الاتهامات وما ستنتهي إليه التحقيقات، وساهم ذلك مساهمة فعّالة في جعل قصة يوسف -كما أخبر عنها الله تعالى- أحسن القصص. بالنظر في سورة يوسف، نجدها تحفل بالاتهامات، وبتدقيق النظر نجد أن كل الاتهامات في السورة كانت باطلة، وأن كل المتهمين قد ثبتت براءتهم من التهم الموجهة إليهم، إلا متهماً واحداً قد ثبتت عليه جريمته وتم عقابه. - أول المتهمين في القصة هو يعقوب عليه السلام؛ اتهمه أبناؤه بحب يوسف وأخيه أكثر منهم، "ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا". ثم يأتي دليل البراءة في السورة بعد الاتهام مباشرة؛ "ونحن عصبة"، فيعقوب نبي الله، لم يُفضّل يوسف وأخاه على باقي الإخوة كما زعموا، إلا أن يوسف وأخاه كانا أصغر الإخوة، وأبناء الزوجة الثانية، ومن الطبيعي أن يزداد الاهتمام بالصغير حتى يكبر، وبالضعيف حتى يقوى، وخاصةً أن الإخوة كانوا -كما قالوا- "عُصبة" يشد بعضهم بعضاً، وكانوا أبناء الزوجة الأولى، فكانوا أقرب لبعضهم من يوسف وأخيه أبناء الزوجة الثانية. - المتهم الثاني في القصة هو الذئب؛ اتهمه الإخوة اتهاماً باطلاً بأكل يوسف، وقد برّأه الله حينما فضح تخطيطهم من البداية، وفضح استخدامهم الدم الكَذِب لخداع أبيهم الذي لم تنطلِ عليه الكذبة. - المتهم الثالث هو يوسف عليه السلام؛ اتُّهِمَ مرتين في السورة وبرّأه الله من الاتهامين؛ التهمة الأولى كانت من امرأة العزيز، اتهمته أمام زوجها بأنه أراد بها سوءاً، "ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم"، وقد برّأه الله -تعالى- بالقميص المقدود من دبر. وأما التهمة الثانية، فكانت من الإخوة حينما اتهموه بالسرقة، "إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل"، اتهام كاذب لم يقم على دليل ولم تتوقف عنده السورة كثيراً، ولكن دليل البراءة هو قول الله -تعالى- عن يوسف "إنه من عبادنا المُخلَصين". فيوسف عبد مُخلَص لا يسرق. - الاتهام الرابع؛ واتُّهم فيه الفتيان، اتُّهِما لأمر ما، ولذلك تم سجنهما حتى تظهر نتيجة التحقيقات، وبعد ظهور نتيجة التحقيق تم تبرئة أحدهما وهو "ساقي الملك"؛ فخرج من السجن وعاد إلى عمله في القصر. وأما الآخر، فثبتت عليه التهمة وتم عقابه بالصلب. ولعل هذا المتهم هو المتهم الوحيد في السورة الذي لم يُتّهم ظلماً وثبتت عليه جريمته وعوقب. - الاتهام الخامس كان من نصيب إخوة يوسف العشرة ومعهم بنيامين ومعهم قومهم الذين أتوا إلى مصر ليكتالوا؛ اتهمهم يوسف ومؤذنه بسرقة صواع الملك "ثم أذَّن مؤذِّن أيتها العير إنكم لسارقون". ثم بعد التفتيش واستخراج "صواع الملك" من وعاء بنيامين، انحسر الاتهام في بنيامين، ولكن هذا الاتهام كان من كيد الله ليوسف ليأخذ أخاه "كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين المَلك إلا أن يشاء الله" وقد نبّهت السورة إلى هذا الكيد وهذه الخطة، وبذلك تتضح براءة جميع المتهمين من تهمة سرقة صواع الملك. - وأما قول يوسف عن امرأة العزيز "هي راودتني عن نفسي"، ففي رأيي لم يكن هذا اتهاماً لها بمراودته بقدر ما كان دفاعاً عن نفسه وردّاً لقولها بعد أن اتهمته أمام زوجها بأنه أراد بها سوءاً. - وكذلك قول الملك للنسوة: "ما خَطْبُكنَّ إذ راودتن يوسف عن نفسه"، فهذا لم يكن اتهاماً لهن بمراودة يوسف بقدر ما كان مواجهتهن بالحقيقة التي قد توصل إليها الملك قبل استدعائهن. فهو لا يتهمهن بالمراودة، ولكن يقول لهن: ما خطبكن بعد أن علمت أنكن قد راودتن يوسف عن نفسه. وأما التحقيق في الاتهامات والجرائم بالسورة، فقد اختلف من قضية لقضية: - فجريمة التخلص من يوسف لم يفتح فيها يعقوب تحقيقاً؛ ليقينه بأن يوسف على قيد الحياة، فقط أخبرهم بأن الكذبة لم تنطلِ عليه، ثم عمد إلى الصبر والاستعانة بالله، "بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان". - وأما اتهام يوسف بالمراودة، فتمَّ التحقيق في الأمر عن طريق البحث عن دليل لإدانة هذا أو تلك، وكان الدليل هو القميص المقدود الذي برّأ بوسف وأثبت التهمة على امرأة العزيز. - وأما قضية سَجن يوسف، فقد فتح الملك فيها تحقيقاً بنفسه، بعدما قال يوسف لساقي الملك "اذهب إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن". وبعد أن عرف الملك ما حدث مع يوسف، أحضر النسوة وامرأة العزيز، وواجههن بالحقيقة التي توصل إليها، "ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه". - وأما القضية التي سُجِنَ بسببها الفتيان فتمَّ التحقيق فيها، وأظهرت التحقيقات براءة أحد الفتيَين، وتم إعدام الآخر صَلباً بعد ثبوت التهمة عليه، وأما البريء فقد عاد إلى عمله في القصر. - وأما قضية "سرقة صُواع الملك"، فقد كانت قضية ملفّقة؛ ولذلك خرج جميع المتهمين منها ما عدا بنيامين، بعد أن كاد الله ليوسف ليُؤوي إليه أخاه. وهكذا، نلاحظ أن الاتهامات التي توزعت خلال السورة من بدايتها لنهايتها، وكذلك التحقيقات، وتوالي ظهور البراءات، كيف أسهمت جميعاً في وضعِ متتبع القصة في حالة ترقب من اللحظة الأولى وحتى النهاية. وبهذا، يتضح كيف أن الاتهامات والتحقيقات كانت عناصر هامة أدت أدوارها بكفاءة في قصة يوسف، وشاركت في تطور الأحداث وإضافة عناصر التشويق والإدهاش؛ لتساهم في جعل قصة يوسف -عليه السلام- أحسن القصص. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :