طيلة الأيام الماضية من هذا الشهر الكريم عرضنا لبعض ألوان الفن في القرآن تصويرًا ورسمًا من خلال اللفظ القرآني المُبارك المُجرد، وسيكون محور الحديث في اليومين الأخريين من رمضان حول القصة في القرآن الكريم وما بها من لمسات قرآنية خاصة، وصفها التنزيل الحكيم «بأحسن القصص» بقوله تعالى: (إنا نحن نقُصُّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) يوسف 3، ولو لم تستوقفنا أي ملاحظة حول القصص القرآني إلا أنها عصية على التقادم لكفتنا هذه الملاحظة لطرح السؤال بِمَ تمتاز القصص حتى تعالت على النسيان وتنطلق على الألسنة في الماضي والحاضر ولن تفتر مستقبلا، وأسلوب القصة من الأساليب التي أسهمت مع بقية الأساليب في توصيل الرسالة الربانية، فاعتنى القرآن الكريم بها عناية خاصة؛ لما فيها من عنصر التشويق، بهدف الاتعاظ والاعتبار، (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) 176 الأعراف وفي قاموس اللغة القصة من القصّ وتعني تتبع الأثر (فارتدا على آثارهما قصصًا)، والقصة تعني الأمر والحديث، فنقول اقتصّ الحديث أي رواه على وجهه، أما القِصص بكسر القاف فهي جمع القصة، وفي المعنى الاصطلاحي فإن القصة تعني الإخبار عن قضية ذات مراحل، يتبع بعضها بعضًا، وأيًا كان موضوع القصة القرآنية فإنها تنفرد بمزايا منها المصداقية (ومن أصدق من الله حديثًا) وأنها ذات نفع على مر الأجيال، والقصة القرآنية غيبية وهي من الأنباء بالنسبة لسيدنا محمد سواء كانت القصص الماضية أو التي عايشها الرسول الكريم عليه السلام أو القصص المستقبلية ولا بد لكل قصة من عناصر تُبني عليها الحدث «المضمون» والزمان والمكان. القالب التي أُطرت به القصة، والشخصيات أو الأسماء الواردة في القصة، أو كما يُطلق عليها حديثًا «أبطال القصة» والغاية من القصة أمر لا بد منه في القصة. والقصة القرآنية لا تخرج عن هذا الذي تقرر. فيما يتعلق بالمضمون فإن القصص القرآني يستدعي الحدث التاريخي من أعماق الزمن، ويجمعه من وجوه الأرض؛ ليعرضه على الحياة من جديد في مقام العظة والعِبرة. وبعبارة أخرى إنه يبعث الحدث التاريخي بعثًا جديدًا، ويجعله حيًّا بعد أن كان ميتًا، كل ذلك بأسلوب شائق، ومضمون فائق. أما عنصر الزمن، فإن من البديهي أن يكون لكل قصة في القرآن زمنها الخاص بها، وعنصر الزمن في القصة القرآنية زمن مطلق من كل قيد، إلا قيد الماضي، فليس لهذا الزمن حدود تحده، بل هو حدث مضى وانتهى. وقل الشيء نفسه بخصوص عنصر المكان، فالقصص القرآني لا يلتفت إلى المكان، ولا يُجري له ذكرًا إلا إذا كان للمكان وضع خاص يؤثر في سير الحدث، أو يبرز ملامحه، أو يُقيم شواهد العبرة والموعظة، كما في قصة الإسراء، حيث ذكر القرآن مكان أحداثها للاعتبارات المتقدمة، أما إن لم يكن للمكان أي اعتبار من الاعتبارات المتقدمة، فإن القرآن لا يلتفت إلى ذكر المكان، ولا يعول عليه، كما في قصة أصحاب الكهف ونحوها. وأما الأسماء فإن القرآن إذا ذكر في قصصه أسماء الأشخاص، فإنما يذكر شخصية تاريخية معروفة، كذكره أسماء الأنبياء، وذكر بعض الأسماء التي تحدت دعوة السماء، كفرعون، وقارون، وهامان، وغيرهم، وهناك شخصيات لم يذكر القرآن اسمها، واكتفى القرآن بذكر ما لها من صفات نفسية، أو روحية، كصاحب ومؤمن فرعون، وعرض القرآن أسماء بلا أي صفة مثال (وجاء من أقصى المدينة رجل) أو ذكر قرية مبهمة (وكم من قرية أهلكناها...) فالمقصد القرآني هو الحاسم في تعريف الشخصية أو إبهامها، فالاعتبار هو الغاية النهائية للقصة القرآنية. إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة، من غير أن تتغير معالمه، ومن دون أن يضعف أسلوب عرضه، لهو أمر عسير لا يقدر عليه إلا ذو الطَول البلاغي والبياني، وهذا ما يظنه الناس تكرارًا في القصص القرآني، أما المُدقق فيبدو له شيئا جديدا فيما يُخيل للآخر أنه تكرار. ولعلّ هذا الجديد هو الذي يطرد السأم من النفس عندما تتلو القصص القرآني، حيث النفوس مجبولة على رفض التكرار، وسعيها الدؤوب إلى التغيير والتجديد، وهذا ما رُوعي في كتاب الله «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). الأحداث التي تضمنها القصص القرآني هي قطع من الزمن جرت فيها أحداث حياتية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، استحضرها القرآن العظيم من الماضي كما هي، من دون أن يُدخل عليها شيئًا يغير حقيقة من حقائقها، ونحن إذ نقدس النص ونُجِله علينا الوقوف على القصة القرآنية متأسين بأسلوبه بحيث نعطي الأهمية لما ركز عليه النص القرآني، والذي ينبغي ألا ننساه ويبقى حاضرًا في أذهاننا هو الغاية السامية التي من أجلها جاءت القصة في الكتاب الكريم.
مشاركة :