يمثل بنك التسوية الدولي المؤقتة التي تنضبط عليها حركة المؤسسات الاقتصادية العالمية. ويدعو البنك لتشديد السياسات النقدية والمالية سواء بدا ذلك الطلب منطقياً أم لا. ومن حسن الحظ أن صناع القرار أو على الأقل البنوك المركزية الأعضاء في البنك تجاهلت حتى الآن قناعته بأن العالم بحاجة إلى ركود أعمق وأطول أمداً. ولأن البنوك المركزية تجاهلت دعوة بنك التسوية فقد شهد العالم انتعاشاً ركيكاً.فهل يقرع بنك التسوية الدولي جرس الإنذار في التوقيت المناسب كما فعل قبل الأزمة المالية الأخيرة؟ويعيش العالم اليوم ظروفاً مختلفة عن ظروف ما قبل تلك الأزمة. فقد كشف تقرير لمجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية أن «الأمور جيدة لكنها ليست ممتازة». ويتوقع نادي باريس للدول المتقدمة إلى جانب عدد غير قليل من المحللين أن هناك تحسناً طفيفاً في أداء الاقتصاد العالمي هذا العام قد يستمر للعام المقبل.وتعلق الآمال على أن يكون هذا التحسن بداية لمسار تصاعدي مستدام تضمن فيه قوة الاستثمارات وتحسن الإنتاجية الحفاظ على معدلات تضخم إيجابية. لكن التمني يبقي تمني. فما هي المخاطر التي يواجهها هذا الانتعاش؟أبرز تلك المخاطر أن برامج التحفيز المالي ستنتهي عاجلا في الولايات المتحدة وأوروبا. ولا تزال الضغوط التضخمية تحت السيطرة.وعلى الرغم من إقرار بنك التسوية الدولي بأن ارتفاع معدلات التضخم لا يشكل خطرا مهما إلا أن ذلك مرده إلى العولمة التي عززت ضغوط التنافسية.أما الخطر الثاني فهو ذو طبيعة مالية.فقد اعترف رئيس البنك أن الطفرات المالية في الأسواق الناشئة والتي طال أمدها بدأت في التراجع وأن مستويات الديون في العالم بلغت أرقاما قياسية عام 2016 حتى بلغت ديون مجموعة العشرين 220 % من ناتجها الإجمالي أو ما يزيد عن مستويات عام 2007 بحدود 40 نقطة مئوية.ولعل أبرز تجليات هذه المشكلة تبدو في الدين الصيني.وعلى الرغم من أن النظام المالي في الغرب بات أكثر انضباطا خاصة في منطقة اليورو إلى أن حجم مشكلة الديون الصينية يبقى قنبلة موقوتة تهدد بانفجار النظام المالي العالمي.وهناك خطر آخر نتج عن تجدد الضعف في الطلب التراكمي. وهذا أحد المخاطر الذي يركز عليه بنك التسوية الدولي.لكن حتى اليوم ومع استمرار معدلات التضخم تحت السيطرة لا يزال حيز المناورة في السياسة النقدية والسياسة المالية متاحا.وهذا يتعارض مع تسريع تشديد السياسة النقدية والالتزام بهدف تمتين محفزات الانتعاش. ويبقى الخطر الأكبر والأهم في تداعي التعاون الدولي وانهياره وربما نشوب النزاعات بين الأطراف الفاعلة. وهذا لا بد أن يهدد استقرار الاقتصاد العالمي ويكمل ما بدأته الدعوات الحمائية والحرص على المصالح الوطنية أولا.والحقيقة أن ذلك سيعيد ترتيب النظام العالمي الذي انتعش بفضل العولمة وما أفسحته من فرص.ولعل البنك يكون محقاً في ادعائه أن ما تحقق في ظل العولمة عزز الفوارق الطبقية وفقد الوظائف في الشريحة الوسطى من المهارات،وفي القطاع الصناعي في الدول المتقدمة.لكن هذا هو الذي منح الدعوة إلى الحمائية في الدول الصناعية خاصة الولايات المتحدة،مزيداً من التأييد.لكن الحقيقة أيضا أننا في الدول ذات مستويات الدخل المرتفع سمحنا للنظام المالي أن يزعزع استقرار اقتصاداتنا.فنحن لم نعط التحفيز المالي كامل فرصته ليخرج الاقتصاد من ركود ما بعد الأزمة، ونحن الذين منحنا التفاوت الطبقي فرصة التعمق بين الناجحين ومن هم أقل نجاحا.وكانت هناك أخطاء قاتلة. واليوم ومع بدء تعافي الاقتصادات نواجه تحديات من نوع جديد أهمها تجنب انفجار اقتصاد العالم مع ضمان استفادة شريحة أوسع من انتعاشه وتحقيق معدلات نمو مرتفعة.لكن من أسف أننا لن ننجح في تربيع هذه الدوائر.ويطالبنا بنك التسوية الدولي بالمرونة. وجزء من تلك المرونة يعني أن يكون النمو الاقتصادي أقل اعتمادا ًعلى الديون. لكن الاستدانة هي أهم طرق تحقيق النمو ورفع كفاءة الاقتصاد.وفي حال فشلنا في مواجهة هذه التحديات فلن يكون الانتعاش قويا ولا مستديما.لقد بلغت خطط الإنقاذ مراحلها النهائية وحان الوقت لترسيخ ما هو جيد وتكراره وإصلاح ما لم يكن نافعا أو استبداله.محمد الصياد* كاتب في فاينانشيال تايمز
مشاركة :