في ليلة موسيقية فريدة من نوعها توافد الآلاف من مختلف أنحاء لبنان إلى جبيل اللبنانية لمشاهدة عازف الكمان الإسباني واللبناني الأصل العالمي آرا ماليكيان، ضمن فعاليات مهرجانات بيبلوس الدولية. على مدى أكثر من ثلاث ساعات، تألّق العازف الغجري الشكل والعالمي الأسلوب آرا ماليكيان بأداء موسيقيّ منقطع النظير سلب الألباب، إذ أمتع الحضور بمزيج من الموسيقى الكلاسيكية مروراً بالبوب والروك، ورافقه في الأمسية ثمانية عازفين. ولم يبخل ماليكيان على جمهوره بشرح متواضع لكل قطعة موسيقية وحيثيات عزفها أو تأليفها، وذلك في قالب طريف وأسلوب فكاهي، أضفى على الأمسية جواً من الحميمية، كاسراً الجليد بينه وبين جمهوره الذي أطلعه على تفاصيل حياة لا يتشاركها العازفون عادة إلا مع الصحافيين، فشذّ بذلك عن القاعدة العامة، إذ راح يتلو حكاية نشأته موضحاً أنه من سلالة عازفين فأبوه، رحمه الله، كان بدوره عازف كمان مع المطربة الكبيرة فيروز، وقد هاجر من لبنان هرباً بعائلته من نير الحرب، وزرع لديه حبّ الموسيقى، مع أنه كان يهوى الكلاسيكية منها وليس الروك أو البوب، اللذين كانا أقرب إلى أخته. «إذا قدّر لأي منكم رؤية والدي، رجاء خاص مني لكم لا تخبروه أنني أعزف الروك أو البوب، فهو سيستشيط غضباً لفعلي الشنيع هذا»، قال العازف ضاحكاً منتزعاً آلاف القهقهات في هواء بيبلوس الطلق. والولد المهاجر تتلمذ في ألمانيا ولندن، وقدَّم أول حفلة موسيقية له في سن الثانية عشرة، وفي الرابعة عشرة منحته وزارة الثقافة الألمانية منحة للدراسة في هانوفر وكان أصغر تلميذ يحصل على منحة من هذا النوع وينضمّ إلى المدرسة الراقية. وأخبر ماليكيان الجمهور كيف أنه في بداياته كان لا يملك كماناً مذيلاً باسم كبار صانعي الكمان، شأنه شأن كبار العازفين، وحين كان يسأل عن مصدر كمانه كان يعطي المستفسر اسماً وهمياً على وزن الاسماء الإيطالية، فمعظم رفاقه يملك آلات فاخرة باهظة الثمن أمثال «غوارنيري» و«ستراديفاري»، في حين لم يكن لكمانه اسم أو حتى تاريخ أو مكان تصنيع، فخطر له اختراع «فرنشيسكو رافولي» الوهمي صانعاً لكمانه العزيز، وهو غجري روماني الأصل غريب الأطوار رفيق لدراكولا لا يحبّ الأضواء، لذلك لم يسمع به أحد. وماليكيان إذ صدّق كذبته على مرّ السنوات ألّف لرافولي قطعة موسيقية وفاءً منه له وعزف المقطوعة التي حملت اسم Broken eggs (بيض مكسور) في الأمسية عرفاناً بالجميل للشخصية الوهمية. أجواء منوعة وشاء ماليكيان أن تكون الأمسية منوّعة، فعزف قطعاً من أجواء موسيقية مختلفة من فيفالدي إلى «ريد هيد» إلى «ليد زيبلين»، وطبعاً أمتع الجمهور بقطع من تأليفه الخاص حملت إحداها اسم «برج حمود» كتبها تكريماً لحياة المدينة اللبنانية الصاخبة، علماً بأنه وعلى حد قوله، ولد في الحمرا ببيروت وليس في المدينة المذكورة. وعزف ماليكيان مقطوعة أخرى أهداها إلى ضحايا المجازر وتحديداً المجزرة الأرمنية، وأطلق عليها اسم 1915، وكان أداؤه فيها لافتاً، خصوصاً أنه نجح في جعل الكمان يصدر أصوات نحيب حزين فكاد المرء يجزم أن ثمة بشراً استوطنوا الآلة وتوسلوها ملاذاً لهم فيها ينتحبون ويستغيثون. ولعلّ أهم ميزة لأمسية من توقيع ماليكيان هي قدرته على أداء أنواع الموسيقى كلها ببراعة فائقة من كلاسيكية وغجرية، إلى الروك والفلامنكو، وسواها من الأنواع الموسيقية بأسلوبه الخاص الفريد، إذ هو الوحيد عالمياً القادر على الإبداع أداءً بعزف يترافق دوماً برقصٍ وحراك دائمين كقفز من الأعالي أثناء الأداء، فتشعر معه بأنك أمام مشهد سوريالي لعازفٍ يتخطى المعقول والمتعارف عليه والمعهود من قوانين عزف وجاذبية، فمعه تكاد لا تعرف من المسيطر على الأجواء الكمان أم العازف. ثمة انصهار مخيف بين الكيانين وكأنك تشهد تلاحماً سحرياً بين مادتين ساحرتين بشكلٍ لا يقبله منطق، إذ كيف لك أن تعزف بهذه الحرفية وأنت تقفز بخفة وحيوية من مكان إلى آخر بلا هوادة على امتداد المسرح؟ وكيف لك بعد توقفك عن العزف أن تسترسل في شرح القطعة الموسيقية التالية من دون أن ينقطع حسّك؟ وكيف لك العزف لساعاتٍ ثلاث متتالية من دون التوقف ولو برهة وجيزة لالتقاط أنفاسك؟ وختم العازف الأمسية بتغلغله مع كمانه بين صفوف الجمهور وهو يعزف قطعة لباخ، فبات أشبه بحلمٍ ملموس كاسراً هالة الفنان البعيد عن المنال، إذ شقّ طريقه بين الحضور عازفاً للموجودين، وهو على قاب قوسين منهم، وهو الأمر الأحب إلى قلب الفنان الذي أعلن غير مرة أنه غالباً ما يقصد الشارع ليعزف فيه للمارة من دون أي تخطيط، و«اليوتيوب» يفيض بتسجيلات له من هذا النوع. ولا شك في أنّ فرادة ماليكيان هذه كحالةٍ فنية لا شبيه لها هي التي جعلته يفتتح أعمال مؤلفين عصريين على غرار فرانكو داناتون، ومالكوم ليبكين، وسواهما، ويعمل مع كبار مؤلفي الموسيقى كألبيرتو ايغليسياس الذي سجّل معه فيلم «تحدث إليها» لبيدرو ألمودوفار الحائز جائزة أوسكار، ولماليكيان الكثير من المؤلفات الموسيقية التي لاقت الاستحسان والثناء. جوائز نال ماليكيان جوائز كثيرة وأوسمة من ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والولايات المتحدة واليابان، مسطراً ملاحم موسيقية في مسيرته الواعدة والمنبئة بنجاحات باهرة، فالولد متيم بالآلة التي أنقذت جده من براثن الموت إبان المجزرة حين فرّ من أرمينيا موهماً الناس أنه فرد من إحدى فرق الأوركسترا، فيما قضت العائلة بأسرها في أسوأ مأساة في التاريخ. ليست قصة ماليكيان بعادية، إنّها ضرب من الخيال. شكله يوحي بأنّه فنان غير تقليدي يكسر الصور النمطية، لا غرابة في الأمر فهو يسير على نصيحة والده الذي قال له ذات يوم: «يا ابني الكمان فانوس سحري عليك بفركه دوماً»، وها هو اليوم يفرك فانوسه وبلا هوادة ليملأ عالمنا البائس سحراً وجمالاً.
مشاركة :