معضلة الإسلام السياسي ومقاربة الدعاوى الشمولية

  • 8/17/2013
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يعتقد البعض أن الدين يكون شاملاً فقط عندما يتحدث في كل شيء، ولا يسكت عن أي شيء، وعندما يطرح كل الأسئلة ويقدم كل الإجابات. ونزعم هنا أن العكس هو الصحيح، فالدين يكون شاملاً حقاً عندما يصمت عن التفاصيل، ويتسامى على الوقائع المتغيرة، ولا يطرح إجابات إلا على الأسئلة الوجودية الكبرى حول البدايات والنهايات، والمثل والغايات، والمصائر النهائية. وفي المقابل يتوقف عن طرح الأسئلة العلمية عن الكيف، والعملية عن الوسائل. ولعل هذا الطريق هو ما سلكه الإسلام، فكان حقاً ديناً شاملاً، إذ لم يدع لنفسه خصوصية علمية تبرر ما يذهب إليه البعض قائلاً بـ «إسلامية المعرفة»، أو «إسلامية الدولة»، فلا توجد أبداً معرفة علمية إسلامية، ولا نظرية سياسية إسلامية لأن كلتيهما من الأسئلة العملية المنوطة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ، وإن وجدت دوماً غايات للمعرفة العلمية يمكن القول إنها إسلامية، تتعلق بتمكين الإنسان من العمران، زيادة للخير العام وتحقيقاً للسلام والأمن، أو مثل عليا للممارسة السياسية يشدّد عليها الإسلام تحقيقاً للعدالة والمساواة وتحرير الإرادة الإنسانية من القهر والسيطرة ليكون لها حق الاختيار المبرر للحساب، فهذه الغايات وتلك المثل إنما تنبع من شمولية الإسلام الوجودية، وانشغاله بالمصير الإنساني. في هذا السياق يقدم الإسلام تأسيساً أنطولوجياً للعلم، عندما يجعله مكوناً أساسياً في الرؤية الإسلامية للوجود، ويدعو صراحة إلى السعي في طلبه وتوظيفه في خدمة رسالة الاستخلاف الإنساني على الأرض، تلك الرسالة القائمة على الجمع بين الدين والدنيا، والمؤسسة على روح جهادية بالمعنى الحضاري، تسعى إلى التأثير في حركة التاريخ، بدفعه نحو قيم العدالة، ومحاولة انتشاله من حال العبث والفوضى والظلم التي كانت سائدة في ما قبله. ولعل هذه النزوع الجهادي هو ما دفع بعض فلاسفة الدين - كميرشيا إلياد مثلاً - إلى أن يعتبر الإسلام محاولة لاستعادة مسار الدين اليهودي المنشغل بالعالم الأرضي بعد أن كانت المسيحية قد نحت بالدين الإبراهيمي الحنيف نحو روح مغتربة انشغلت كثيراً بالملكوت السماوي، وأهملت كثيراً الملكوت الأرضي. كما دفع بعض المستشرقين، كوليم سميث، إلى وصفه بكونه ديناً «مذكراً». وفي المقابل لا نجد في الإسلام تأسيساً إبستيمولوجياً للعلم، أي تحديد مبادئ عامة حاكمة أو مقدمات نظرية شارحة أو قول موجب بـ (نظريات علمية) يبقى اكتشافها واجباً على العقل الإنساني المتطور في التاريخ، ومن ثم يبقى الحذر تجاه هذا التأسيس والتسامي عليه تأكيداً لشمولية الإسلام وليس تقليلاً منها أو نحراً فيها، لأن الدور الأساسي للكتب السماوية عموماً، والقرآن الكريم خصوصاً، لا يكمن في تقديم رؤية خاصة أو مناهج تحليلية لجوانب محددة من الظاهرة الطبيعية، بل في تقديم رؤية شاملة للوجود لا تتناقض مع العلم، لذا نرفض مقولات من قبيل «الإعجاز العلمي للقرآن»، ونفضل في المقابل القول بـ «التعقل الكوني للقرآن»، أي قدرة القرآن الكريم على تعقل المبادئ الكونية الأساسية بطريق السلب والإجمال. الإجمال بمعنى طرح القرآن لمبادئ مجملة لا مجال للتفصيل فيها، لأن التفصيل هو شأن العلم التجريبي أو التحليلي الذي يعمل وفق مناهج دراسة الظواهر، والقرآن ليس كتاباً علمياً يهدف إلى عرض العمليات التحليلية للنظرية أو القانون العلمي، بل هو كتاب يحوي «رؤية للوجود» تكشف للمؤمن به عن دوره ومصيره، سواء في هذا العالم أو ما بعده، وإن أتى ذلك تأسيساً على قاعدة العقل ومن خلال دعوة البشر/ الإنسان إلى التأمل في أعمال الخالق، مصحوبة بإشارات عامة يمكن الملاحظة الإنسانية أن تدركها، سواء في صورة قوانين كلية تحكم النظام الكوني والعالم الطبيعي أو سنن تاريخية تشي بالقيم الإيجابية للاجتماع الإنساني كالعدل والمساواة والحرية والإخاء والتكافل وغيرها. أما السلب فيعني أن القرآن الكريم لا يبادر إلى تقديم نظريات علمية موجبة ومكتملة ربما عانت من أزمة صدقية بفعل نمو العلم، وتزايد قدرته على تجاوز نفسه، ومن ثم خضوع نظرياته وقوانينه للتكذيب المستمر. والتكذيب أمر مقبول في العلم بل ضرورة لتقدمه عبر القطيعة مع المناهج السائدة (التقليدية) في كل مرحلة من مراحل التاريخ والعلم على السواء، بل إن قابلية الفرض العلمي للتكذيب، وفق فيلسوف العلم كارل بوبر، هي إحدى محددات علميته من الأصل، لأن ما لا يمكن تكذيبه لا يمكن تصديقه، وما لا يمكن نفيه لا يمكن إثباته، فلا يكون علماً بل ميتافيزيقا. أما ذاك التكذيب فأمر كارثي للدين، عندما يتجاوز النص مجاله، إذ يضع الوحي في صدام مع العقل، على نحو ما نسب إلى العهد القديم من نظريات قاطعة حول خلق الكون، والإنسان، والطوفان، وغيرها مما اصطدم بعد ذلك بالعلم الحديث، وهو أمر تجاوزه القرآن عبر الصمت عن تقديم نظريات علمية موجبة، وعبر تشديد آياته على لا محدودية الكون... و «يخلق ما لا تعلمون»، حيث تبقى الرؤية الوجودية للإسلام ممتدة فوق الأفق العلمي كله، ومفتوحاً على التاريخ بطوله، منطوية، ومن دون تناقض، على كل الممكنات الآنية والمستقبلية. ويمتد مفهوم الشمولية (الوجودية) من حقل المعرفة العلمية إلى حقل المعرفة السياسية، إذ يقتصر القرآن الكريم على تقديم مثل سياسية عليا كالشورى والعدل والمساواة وزهد الحكام، وهي المثل التي جسدها العصر النبوي وبدايات العصر الراشد، خصوصاً الحقبة المؤسسة للخليفة العادل عمر بن الخطاب، والتي أخذت في التدهور نسبياً مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فكانت الفتنة التي أودت به. ولما تولى الإمام علي وقعت الفتنة من معاوية، وتحولت الخلافة إلى ملك عضوض. ومع يزيد بن معاوية بات التحول كاملاً، وعاصفاً نحو الملك الوراثي، وهنا تم الإهدار الكامل لمثل الإسلام العليا في الحكم، ثم وقع الالتباس لدى عموم الناس بين فقدان هذه المثل العليا، وبين فقدان ما يعتبره البعض «الدولة الإسلامية»، فما حدث في التاريخ ابتعاداً من تجارب الحكم الإيجابية والفعالة (الراشدة) لم يكن تنازلاً عن نظرية الإسلام السياسية (الشرعية) بل تدهوراً في قدرة الحكام المسلمين على تجسيد هذه المثل العليا، الذي تظل قائمة على رغم ذلك، بانتظار من يجسدها عبر كل وأي جسد سياسي، فالمهم في الإسلام ليس شكل الدولة، لأنه أمر تاريخي، بل المثل العليا الإسلامية المتجاوزة للتاريخ، والقادرة دوماً على إلهامه. وفي المقابل ينأى الإسلام بنفسه عن تقديم نظرية شاملة للمعرفة السياسة، كانت تقتضي منه التفصيل في أمور عدة وتقديم حزمة من المقولات حول طبيعة السلطة وكيفية تشكيلها، وكيفية صوغ العلاقة بين السلطات، وكيفية تحقيق التوازن بينها، وكيفية ممارسة الرقابة عليها... إنها أسئلة الكيف التي تشكل ما يمكن تسميته بـ (التقنية السياسية) التي تتحدث عنها تفصيلاً النظرية الديموقراطية الحديثة في الحكم، والتي سكت عنها الإسلام، ليس ضعفاً في شموله بل اتساقاً مع هذا الشمول، فما يراد له أن يكون شاملاً لا بد له أن يكون عاماً، يخاطب الغايات النهائية وينشد المثل العليا، والمبادئ المؤسسة، وأن يصمت عن وسائل وكيفيات إنزالها على دنيا الناس، فالمثل والغايات دائمة، إذ لم يتغير معنى العدل مثلاً منذ بداية التاريخ بل ازداد ثراء، ولم تتراجع قيمة الشورى قط بل ازدادت عمقاً، ولم يذبل مفهوم زهد الحكم بل ازداد أهمية بفعل تنامي المغريات، وتعدد أبواب الفساد على نحو ما نرى ونسمع في كل العصور والعهود. أما عالم الناس فمتغير، لذا فإن الآليات والوسائل التي يمكن من خلالها إنزال هذه المثل على وقائعه، تبقى متغيرة، باتجاه قدرة أكبر على صوغ حركة المجتمع، ودرجة أعلى من النجاح في تمثيله. ففي دولة المدينة اليونانية، مثلاً، كان ممكناً جمع رجالها الأحرار باعتبارهم فقط المواطنين، في ميدان عام للتشاور واتخاذ القرارات الكبرى. ولم تبعد دولة المدينة المنورة كثيراً عن دولة المدينة اليونانية وإن اختلف السياق من هنا، كانت الشورى أمراً ممكناً. أما اليوم، في ظل التقدم الصناعي، والنمو السكاني، والاتساع الجغرافي، ناهيك عن سيادة النزعة الإنسانية والأفكار المساواتية التي أنهت ظاهرة العبودية، ومنحت النساء حقوق المواطنة كاملة، فقد صارت الديموقراطية الأثينية، كالشورى الإسلامية، أمراً مستحيلاً، وصار البديل الأكثر منطقية يتمثل في الديموقراطية التمثيلية، والتي يتم من خلالها اجتماع الشعب عبر نوابه تحت قبة برلمانية بديلة عن ميدان أثينا وعن صحن مكة أو المسجد النبوي، للتشاور واتخاذ القرارات الحاكمة.     * كاتب مصري

مشاركة :