ملاحظة جديرة بالتوقف تلك التي قدّمها الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني (زمزم)، الأردني، رحيل غرايبة، في محاضرة الأكاديمي والسياسي المغربي، سمير بودينار، في "معهد السياسة والمجتمع" في عمّان الأسبوع الماضي، بعنوان "اليوم التالي للانتخابات المغربية"، وشارك فيها مثقفون وسياسيون وأكاديميون أردنيون. ففي إطار تشريح الأسباب التي أدّت إلى الهزيمة المدوّية لحزب العدالة والتنمية (الإسلامي) في المغرب في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، يرى غرايبة أنّ ما يحسب للحزب من التحلل من الخطاب الأيديولوجي الهوياتي والانتقال إلى الجانب العملي والسياساتي الواقعي هو نفسُه ما أدّى إلى فقدانه قاعدته الاجتماعية العريضة التي كانت، في أوقاتٍ كثيرة، تصوّت للحزب، انطلاقاً من خلفيته الإسلامية، ودعماً لما يقدّمها من أفكار وتصورات في هذا الإطار. المفارقة الصارخة تبدو هنا أنّ الإسلاميين الذين انتقلوا من طور أيديولوجيات الإسلام السياسي المعروفة، التي تقوم على خطاب هوياتي ووعود بإقامة دولة إسلامية، إلى مرحلة أطلق عليها الباحثون ما بعد الإسلام السياسي، وقعوا في فخّ الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية السيئة في مجتمعاتهم، وعدم قدرتهم على إحداث فروق نوعية مباشرة. وفي الوقت نفسه، لم يحافظوا على ما تمتّعوا به من شعبية مبنية على الخطاب الأيديولوجي للحركات الإسلامية قبل ذلك. للتوضيح أكثر، في ما يتعلق بمصطلح ما بعد الإسلام السياسي، يمكن مراجعة كتاب آصف بيات هنا "ما بعد الإسلاموية"، وكتاب قمت بتحريره (أصدرته مؤسسة فريدريش أيبرت بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية) بعنوان "ما بعد الإسلام السياسي... مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية" في عام 2018، تأخذ فيها أحزاب إسلامية مساراً يخرج من ثوب الأيديولوجية التقليدية إلى طروحاتٍ سياسيةٍ واقعية وطنية. إذاً، تضعنا ملاحظة رحيل غرايبة أمام معضلة هذه الأحزاب، بخاصة في ضوء التجربتين، المغربية والتونسية، ولعلّ ملاحظاتٍ مهمة جديرة بالقراءة والتمعّن قدّمها الأكاديمي المغربي بودينار، فالإسلاميون هناك حاولوا تقديم رسائل طمأنة واضحة، بعدم وجود أجندة تقلق القوى الأخرى، بل حتى الدول الأخرى، وربما المخزن (القصر المغربي)، على الرغم من أنّه (بودينار) لم ينفِ أن هنالك إخفاقاً في تقديم إنجاز يشفع لـ"العدالة والتنمية" أمام جمهور مغربي يكتوي بالظروف الاقتصادية القاسية، وكان يتأمل أن تتغير الظروف مع مجيء الإسلاميين الذين كانوا في مقاعد المعارضة خلال العقود السابقة. قد لا تكون الإشكالية، كما طرح مشاركون، في تساؤل الإسلام السياسي وما بعده، بقدر ما ترتبط بعدم وجود تصوّرات وبرامج ناجعة في الحكم لدى الإسلاميين أو ما بعد الإسلاميين، أو ربما فشل في إدارة الحملة الانتخابية، لكن السؤال المهم: ماذا لو كان الاستعصاء في الظروف الاقتصادية يتجاوز هذا التيار السياسي (ما بعد الإسلام السياسي)، ويصيب أي حزبٍ يمكن أن يصل إلى السلطة، ما يعني أنّ تحقيق اختراقاتٍ مهمة في معالجة هذه الملفات التي تهمّ المواطنين بدرجة أولية، لن يكون في مقدور أحد، على المدى القريب، فهذا يعيدنا إلى سؤال التحوّل الديمقراطي، نفسه، في العالم العربي وإشكالاته. خلص الضيف المغربي إلى الدعوة إلى الانتقال من سرديات الوصول إلى السلطة (لدى الإسلاميين) إلى سردية التمكين المجتمعي والسياسي في الوقت نفسه. وهذا يذكّر بخطاب النهضة في بدايات القرن الماضي، وما طرحه مفكرون، مثل محمد عبده وقبله جمال الدين الأفغاني، وبعدهم مالك بن نبي، أي صعوبة تغيير النظام السياسي، والوصول إلى ترسيخ الديمقراطية من دون الاشتباك مع الأسئلة المجتمعية والثقافية والتنموية، أو ما تطرحه نظرية التحديث (في أدبيات التحوّل الديمقراطي) التي تربط الديمقراطية بمعدّلات التنمية الاقتصادية والتحديث والتعليم، وغيرها من شروط اقتصادية ومجتمعية. وإذا كان آصف بيات يعيد تدشين موجة ما بعد الإسلام السياسي إلى الحركة الإصلاحية في إيران (تخلت عن مقولات ولاية الفقيه بدايةً)، فإنّ صعود هذه الموجة في العالم العربي ارتبط بصورة أكثر وضوحاً مع صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا، في عام 2002، لكنّ الفرق أنّ الحزب حينها تمكّن بالفعل من إحداث فرقٍ ملموسٍ في المجال الاقتصادي والخدماتي، فهل هذا هو الفرق بين التجربتين، التركية والعربية، (بخاصة في صيغتها التونسية والمغربية)؟ تساؤلات مهمة تستدعي دراسات وقراءات معمّقة تتجاوز هذه التوجهات إلى مناقشة التحوّل الديمقراطي في مرحلة ما بعد الربيع العربي. العربي الجديد
مشاركة :