أن تولد وتحيا في عصر مهم بقلم: لطفية الدليمي

  • 8/6/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

فلتولد أيها الإنسان في عصر مهمّ، فلتكتب أفضل الشعر أو تبدع أعظم الملاحم أو تؤلف أرقى السيمفونيات ولتصنع الأعاجيب والمدهشات.العرب لطفية الدليمي [نُشر في 2017/08/06، العدد: 10714، ص(11)] يستخدم الصينيون عبارة مبطّنة ذات دلالة عميقة تنطوي على قسوة مضمرة تجاه الآخر غير المرغوب فيه، فهم يتمنون لمن يزعجهم أو يعاديهم “فلتولد في عصر مهم أو فلتعش في عصر مهم”، قد تبدو العبارة بريئة في ظاهرها حتى ليتوهم البعض بأنها أشبه بأمنية طيبة، فأن تتمنى للمرء الحياة في العصور المهمة قد يفسّر على أنه سيكون إنسانا يكتسب قيمة وأهمية من الزمن المهم الذي يعيش فيه. غير أن الحقيقة غير هذا؛ فالمولود في عصر مهم -كما يراه الصينيون- لا ينتبه إليه أحد بل يصبح نكرة ونسيّا منسيا بسبب الحوادث الجسام التي تشغل الناس وتنسيهم كل ما حولهم، فلا يهتمون بالأفراد وأحوالهم مهما بلغوا من النباهة والنبوغ وصنع العجائب. وفي زمن الاحتلال والغزو والصراعات الدموية وصعود التشدد يتحول المرء إلى محض رقم يحسب في عداد الضحايا أو الأسرى، أو يحسبه الساسة رقما في جملة أرقام الناخبين، في مثل هذه الأزمنة المتوحشة يفقد المرء اسمه وكينونته الإنسانية وأحلامه وخصائصه وشخصيته عندما تنتزع منه كرامته وتهدر قيمته. فلتولد أيها الإنسان في عصر مهمّ، فلتكتب أفضل الشعر أو تبدع أعظم الملاحم أو تؤلف أرقى السيمفونيات ولتصنع الأعاجيب والمدهشات، غير أن أحدا لن يلتفت إلى صنيعك ولن تبهره قصيدتك الساحرة ولن يهتم أحد بقراءة الملاحم التي ابتدعت، فسوف تبتلع الحوادث الكبرى كل جهد وكل قيمة وإبداع وتهيمن بشدتها ونتائجها المروّعة على المشهد الحياتي برمّته، سينشغل الناس بها خشية أن يطالهم الموت أو يفقدوا الأحبة والأبناء والممتلكات، وفي الأزمنة المهمة لا تقدم وسائل الإعلام في نشرات الأخبار إلا صور الفواجع والقتل والدمار والوقائع الشاذة والجرائم الغريبة واكتساح الجيوش الغازية لبعض البلدان، وحدوث زلازل وفوران براكين.. فلتولد أيها الإنسان في عصر مهم، اعزف سيمفونياتك الباهرة في القاعات وارسم أعمالك الفنية غير المسبوقة وابتكر أجمل المصنوعات فلن يأبه أحد بموسيقاك وفنك الذي كرست له حياتك بأكملها، فالكل منشغل بما سيؤول إليه مصيره ولا يعنيه التمتع بنتاج فني أو الإصغاء إلى موسيقى .. فلتولد في عصر مهم، وعليك أن تتابع نشرات الأخبار في الفضائيات ولن تجد بين عشرات الأخبار المروّعة خبرا واحدا عن حفل راقص أو معرض فني أو حكاية حب مدهشة قاوم أبطالها الخوف والموت، لن تجد غير العويل ومظاهر اليأس والتشكي وجموع من البشر تجازف بحياتها للنجاة من موت يتربص بها في كل خطوة، وسترى الآلاف تهرب من لظى المعارك وتتسلل عبر حدود البلاد الغريبة للحصول على أمان مختوم بالذل الاهتمام، لقد ولدت كل هذه الملايين المفجوعة وعاشت في عصر مهم بوفرة شروره وفواجعه، تغيّرت فيه خرائط الأوطان وأمزجة الشعوب وسلوكيات البشر.. أجل فلتولد في عصر مهم وعندها ستتحول إلى مجرد رقم في قائمة المطلوبين، أو رقم في جوقة النادبين، ورقم في تعداد المظلومين الذين حرموا من بهجة عيش الحاضر أو الحلم بمستقبل قادم وقد سلبهم الساسة أنفاس الحياة ومواريث الأهل وعقارات الأسلاف . كل من يولد في عصر مهم سيكون زائدا عن حاجة الزمن وكائنا مهدور القيمة ومع كوارث معدّة لسكان البلدان المحتلة والمعرضة لهجمات العنف والحروب والاقتتال والهمجية، سيكون المرء إما ضحية أو مهاجرا منفيا أو مبدعا مهملا أو مواطنا يتآكل قلبه أسفا على ما آل إليه مصير الوطن. كاتبة من العراقلطفية الدليمي

مشاركة :