زيارة إلى الدكتور محمد مصدق (2 ــ 2)

  • 8/7/2017
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

تنسى مسافة الساعتين من طهران، في طريق يتلوى بين روعة الطبيعة الخضراء، وهدوء الريف الإيراني؛ وحين تتوقف السيارة لتتزود بالوقود، تعود رحلة الدكتور محمد مصدق السياسية إلى رأسك من جديد، بعد مرور أربعة وستين عاماً. تصل في النهاية إلى «أحمد آباد» الواقعة في شمال إيران، وتستدل على البيت بصعوبة، إذ يبدو من الخارج مثله مثل أي بيت إيراني قديم، ولا توجد لافتات أو علامات توضيحية تقود إلى مكانه. تتبادل مع الحارس بضع كلمات، قبل أن تتسع ابتسامته فاتحاً الباب في ترحيب إيراني لطيف، لتلاحظ حديقة البيت المهجورة، وفي وسطها تقف سيارة الدكتور مصدق إنكليزية الطراز، والعائد إلى بداية الخمسينات، تجذب انتباهك باقات الأزهار المنتشرة في البيت، التي يبعثها محبو الزعيم لتجاور قبره المنصوب في صدر البيت، وأمام القبر صورة كبيرة للدكتور مصدق، مخاطباً الجماهير الإيرانية، رافعاً يديه بعنفوان، وملامح وجهه ممتلئة تصميماً. أما في الغرفة المجاورة، فقد وضعت صورة أخرى له في عام الرحيل، وتختلط فيها نظرته بين الحزن والأسى والوحدة. تمثل الهم الأساسي للدكتور محمد مصدق في تحديث إيران، وبناء اقتصادها وتحريرها من هيمنة الشركات النفطية الكبرى، وبالتوازي مع إصلاح زراعي لإعادة تشكيل الخريطة الاجتماعية في إيران، والأخير بالتحديد ساهم في معاداة الإقطاعيين له. أما أفكار الحياد عن الأحلاف الشرقية والغربية، بالترافق مع تأميم الثروة الوطنية الأساسية (النفط)، فقد حشدت عداء إنكليزياً وأميركياً غير مسبوق للزعيم الإيراني وحكومته الوطنية. وأفتت مجموعة من رجال الدين الإيرانيين قبيل الانقلاب بأن «مصدق معاد للإسلام والشريعة»، بسبب سياسات الإصلاح الزراعي التي طبقها، ولتحالفه مع كتل اليسار والليبراليين، وهكذا انسحب آية الله أبو القاسم كاشاني من التحالف مع مصدق، فاتحاً الطريق أمام خصوم الزعيم في الداخل والخارج للنيل منه. وكان كاشاني قد رشح نفسه رئيساً للمجلس النيابي، واتهم كتلة مصدق بأنها تقف ضد توليه المنصب، في حين اتهمه أنصار مصدق بتهمة «بيع القضية الوطنية» لمصلحة الشاه. وبعد نجاح الانقلاب كان محمود ابن آية الله أبي القاسم كاشاني ثاني الخطباء في الراديو الإيراني لتأييد ومباركة الانقلاب على مصدق. ساهم القمع المتواصل لرموز وأنصار الجبهة الوطنية الليبرالية «جبهة ملي»، منذ الانقلاب على مصدق، وحتى قيام الثورة الإيرانية، في جعلها غير قادرة على خلق تيار سياسي يستقطب على نطاق واسع المعارضة الجماهيرية للشاه وسياساته، بالرغم من الكفاءات المتميزة لأنصار الجبهة الوطنية ونضالهم الدستوري العتيد. فإلى هذه الحملة الإعلامية، وتلك الملاحقة الأمنية، يعزى بعض من فشل الجبهة الوطنية في إرساء مشروع المعارضة الجماهيرية المتنامية على مرجعيتها، أي سيادة الشعب والأمة، ومرجعية القانون والدستور. وكانت تلك الحقيقة معطوفة على تهميش دور البرلمان والدستور، هي أبرز دوافع الأجيال الجديدة للالتجاء إلى العمل السري الراديكالي. فحل الشباب الذي لا يملك ميولاً دينية على التيارات الماركسية؛ البانية مراميها على أساس «دكتاتورية البروليتاريا»، مثل «حزب توده» الشيوعي، ومنظمة «فدائيان خلق» (فدائيو الشعب). وفي المقابل اتجه ذوو الميول الدينية إلى التيارات الأصولية، تلك التي انضوت بحلول عام 1977 بكاملها تحت عباءة السيد الخميني، الذي بعث مصطلح «ولاية الفقيه» إلى الحياة السياسية في إيران. تثبت السياسة الأميركية حيال إيران فشلاً تاريخياً؛ حتى تبدو كأنها سلسلة متصلة من الإخفاق الاستراتيجي، وفساد التقدير السياسي بشكل لا نظير له في العلاقات الدولية. دبرت واشنطن، بالاشتراك مع لندن، الانقلاب على مصدق الوطني، والمنتخب ديموقراطياً، لمصلحة حكم الشاه الدكتاتوري عام 1953، فوضعت اللبنة الأولى لعمارة العداء ضدها في إيران، وعلى طول وعرض المنطقة. وتفرض واشنطن حصاراً اقتصادياً على إيران منذ أربعة عقود، ولكنها في المقابل تطلق بسياستها الإقليمية الرعناء يد إيران في شؤون وتوازنات المنطقة. وعندما تعود واشنطن لتبحث عن سبيل لمعادلة التوازن الإقليمي المختل لمصلحة طهران، فإنها ترجع بين الفينة والأخرى إلى التصعيد غير الممنهج ضد طهران، كما فعل جورج دبليو بوش، ويفعل دونالد ترامب الآن، وهو ما يؤدي بفعل الدهاء الإيراني الشهير إلى زيادة تورطها في مستنقعات المنطقة. وإذ تعود واشنطن لتجنح إلى التهدئة أحياناً، كما حدث في عصر أوباما، فإنها تكرس – للمفارقة – اعترافها بدور إيراني متعاظم في المنطقة. وهكذا يمضي الوقت الذي تثبت فيه واشنطن لكل ذي عينين إفلاسها الاستراتيجي حيال طهران من عصر مصدق وحتى الآن! د. مصطفى اللباد

مشاركة :