منذ أشهر عدة، تعيش الولايات المتحدة على إيقاع اضطرابات سياسية واجتماعية، إذ أسفر دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عن انقسام حاد في أوساط المجتمع كافة. المشكلة الأحدث التي لا ترتبط في شكل مباشر بالسياسة، تتمثل في «حيادية الإنترنت». إذ تخطط إدارة ترامب إلى تغيير القوانين المتعلقة بهذا المبدأ، ما دفع بشركات التكنولوجيا والناشطين الاجتماعيين إلى شن هجمة إلكترونية حادة لم تهدأ منذ أشهر. بداية، لا بد من المرور على التعريف الرئيس لهذا المفهوم لفهم أعمق حول أسباب الخلاف فضلاً عن الأسباب التي تجعل فرض قوانين جديدة في هذا السياق مؤثراً في الحياة اليومية. وضع المفهوم في 2002 من قبل استاذ في القانون في جامعة كولومبيا تيم ووه. واعتبر أن لا صلاحية لأي سلطة، في تقرير المعلومات التي يجب عرضها أو حجبها عن شبكة الإنترنت. ونظراً إلى أن تطوير الشبكات وتحديث الآلات والمعدات لتحسين الخدمة تتطلب الكثير من المال، اقترح أن يتم تقاضي المال وفقاً لحجم البيانات التي استهلكت. ويمكن تعريف هذا المفهوم بأنه «حق الوصول بصورة متساوية إلى كل المواقع والمعلومات الموجودة على الشبكة العنكبوتية من دون تأثير من أحد». ويدور النقاش في الولايات المتحدة حالياً على هذا المفهوم، خصوصاً أن إدارة الرئيس ترامب دعمت إلغاء بعض القوانين التي تُلزم الشركات المزودة لخدمة الإنترنت بعدم التدخل في حق وسرعة الوصول إلى موقع معين. إلا أن هذا النقاش لم يكن وليد الأشهر الماضية، إذ يعود إلى عام 2010، عندما فرضت لجنة الاتصالات الفيديرالية قانوناً يحمي «حيادية الإنترنت» من خلال منع أي شركة مزودة للإنترنت من حجب أو وضع قيود على المستخدم. وبعد أسابيع قليلة قدمت شركة «فيرايزون» لتزويد الإنترنت دعوى قضائية في محكمة فيديرالية لتغيير هذا القانون، ليصب الحكم في مصلحتها في عام 2014. وفي عام 2015، وصل النقاش إلى خواتيمه السعيدة، بعد أن قررت اللجنة تعزيز قوانين «حيادية الإنترنت» لجعله مفتوحاً ومجانياً، لتصادق على القرار في العام التالي محكمة فيديرالية وتعتبر في قرارها الإنترنت المفتوح «أساسي للابتكار والازدهار الاقتصادي». واللافت أن الرئيس ترامب آنذاك، غرد على حسابه على «تويتر» منتقداً تقييد الإنترنت، ليعود النقاش بعد توليه الرئاسة وتعيينه أجيت باي رئيساً جديداً للجنة، خصوصاً أن الأخير لديه الكثير من التصريحات التي تنتقد «حيادية الإنترنت» أو الإنترنت المفتوح. ويريد باي والشركات المزودة لخدمات الإنترنت في الولايات المتحدة، تخفيف القيود الموجودة في هذا القطاع، بحجة أن التشريعات والقوانين التي تُفرض على أيّ مجال تخفف من الاستثمارات فيه. واقترح باي نقل تصنيف الشركات المزودة لخدمات الإنترنت من البند الثاني من قانون الاتصالات الأميركي الذي أقر عام 1934، إلى البند الأول، خصوصاً أن البند الثاني يفرض قيوداً أكبر على هذه الشركات ويمنعها من التدخل في المواقع والمعلومات التي تصل إلى المستهلك. ويقترح رئيس اللجنة، أن تُلغى هذه القوانين، ويتم استبدالها باتفاق تُقدمه الشركات في «سياسة الاستخدام» تتعهد بموجبه «بصورة طوعية» بعدم التدخل في تغيير وتعديل حركة الإنترنت. إلا أن المعروف والمعلوم لدى الجميع، أن قلّة من المستخدمين يقرأون هذه السياسات، خصوصاً أنهم لا يملكون دائماً الخيار، ففي حال رفض البند، سيؤدي ذلك إلى إلغاء الخدمة نهائياً. واللافت أن قلة أيضاً من المستخدمين يستطيعون الاختيار بين شركات الإنترنت. إذ أظهرت استطلاعات اعدت عام 2015، أن 96 في المئة من مستخدمي الإنترنت يستطيعون الاختيار بين شركتين أو أقل، ما يعني أن المنافسة شبه معدومة، وأن المستخدم خاضع للشروط التي تفرضها هذه الشركات مهما بلغت من جحافة. تأثير إلغاء «حيادية الإنترنت» تلعب «حيادية الإنترنت» دوراً مهماً في تطور المجتمع الرقمي، إذ تساعد الشركات الناشئة على المنافسة وسط الشركات المخضرمة التي لديها باع طويل في السوق الإلكترونة. وسيفتح إلغاء هذا المفهوم الباب أمام الشركات المزودة للخدمات لتقاضي الأموال من الشركات المنتجة للمحتوى، بهدف إيصاله بصورة أسرع للمستخدمين. بمعنى آخر، سيُفرض على شركات على غرار «نيتفليكس» أو «أمازون» أن تدفع لشركات الإنترنت مبالغ ضخمة، لإيصال محتواها بصورة أسرع إلى المستخدم. وسيؤدي هذا الأمر بطبيعة الحال، إلى القضاء على المنافسة، إذ لن تتمكن الشركات الناشئة من الوصول إلى المستخدمين كافة، ما يحد من قدرتها على الاستمرار في سوق طاحنة، ناهيك عن ارتفاع الكلفة على المستخدم الذي سيضطر إلى الاختيار بين حزمات عدة بسرعات وأسعار متفاوتة. ولهذا الأمر تأثير في المستخدم أيضاً، إذ لن يتمكن من الوصول إلى كل المعلومات والمنتجات التي يريدها، خصوصاً إذا كانت الشركة المزودة للإنترنت لديها منتج ينافس المنتج المراد الوصول إليه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قررت شركات «إي تي أن تي» و «تي موبايل» و «فيرايزون» في عام 2013، حجب تطبيق «محفظة غوغل» الذي يُمكن المستخدم من الدفع عبر الهاتف، عن هواتفها الخاصة. وأتى هذا الحجب مع إطلاق هذه الشركات المزودة للإنترنت نظامها الخاص للدفع على الهواتف المحمولة. وتتعدد الأمثلة التي يُمكن إعطاؤها في هذا السياق، إذ تستطيع هذه الشركات إبطاء أو منع الوصول إلى محرك البحث «غوغل» على سبيل المثال، وتسريع الوصول إلى «ياهو» خصوصاً أن «فيرايزون» اشترت أخيراً الشركة. إلا أن وجود هذه الشركات تحت البند الثاني، يمنعهم حالياً من القيام بهذا الأمر، وهو ما تحاول هذه الشركات تغييره من خلال لجنة الاتصالات التي يرأسها باي، التي شاءت الأقدار أن يكون محامياً سابقاً في «فيرايزون». ولهذا الغرض، نظم عمالقة التكنولوجيا ما يشبه التظاهرة الإلكترونية، إذ انضمت «غوغل» و «فايسبوك» و «نيتفليكس» و «أمازون» و «موزيلا» و «مايكروسوفت» و» سنابشات» و «تويتر» إلى حملة معارضة طالبوا اللجنة بالتخلي عن خططها لتغيير القوانين التي تحمي «حيادية الإنترنت». فايسبوك مثالاً من اللافت أن «فايسبوك» انضمت إلى هذه الحملة، خصوصاً أن لها باعاً طويلاً في التعامل مع «حيادية الإنترنت». إذ تخطط الشركة لإطلاق طائرات تعمل على الطاقة الشمسية حول العالم لتزويد الإنترنت للمناطق النائية التي لا تصل إليها هذه الخدمات. وأخيراً، بدأت إطلاق هذا المشروع في إفريقيا والهند. إلا أن مبدأ «حيادية الإنترنت» أعاق عملها في الهند على وجه الخصوص. إذ أرادت الشركة تزويد الإنترنت المحدود والذي يتيح للمستخدم الوصول إلى مواقع ومعلومات معينة في مقدمها «فايسبوك»، ما دفع السلطات الهندية إلى إيقاف المشروع بحجة مخالفته مبدأ «حيادية الإنترنت».
مشاركة :