على زملائنا الإعلاميين العرب والعراقيين بوجه خاص، أن يتعقلوا في تقدير أهمية زيارة مقتدى للرياض، وأن يضعوا القـبلة التي طبعها مقتدى على خد الوزير السبهان في إطارها العادي الأخوي الطبيعي، وألا يحملوها أكثر مما تحتمل.العرب إبراهيم الزبيدي [نُشر في 2017/08/07، العدد: 10715، ص(8)] “القـُبلة” التي تبادلها مقتدى الصدر والسفير السعودي السابق في بغداد ثامر السبهان لخصت أزمة الكثير من أجهزة الإعلام العربي التي عودتنا على أن تصنع من الحبة قبة. فقد اعتبرت زيارة مقتدى الصدر للسعودية أشبه بالحدث الانقلابي الانفجاري ضد الوجود الإيراني في الشارع الشيعي العراقي، وهو ليس كذلك، بمقاييس العقل والواقع المحزن المرير. ورغم أن كل مواطن عراقي شريف يتمنى أن يتحقق ذلك الانقلاب اليوم قبل الغد، إلا أن العين بصيرة واليد قصيرة، خصوصا في هذه الأيام. فهذا الشارع مقبوضٌ عليه، بشدة وبحنكة ودراية وإتقان، من قبل النظام الإيراني، مباشرة ووكالة معا، بلا رحمة ولا هوادة ولا استرخاء. فالمعممون الإيرانيون يفعلون ذلك بالعراق والعراقيين بالتواجد المباشر على الأرض للمئات وربما الآلاف من ضباط الحرس الثوري وفيلق القدس بقيادة “الخبير الضيف” قاسم سليماني، وبجواسيس مخابراتهم المتناثرين بهيئة زوار ورجال أعمال ومعلمين وتلاميذ ووعاظ و”رادودين”، وبسفارتهم في بغداد وقنصلياتهم المنتشرة، بنوعيها الظاهر والمستتر، في مدن عراقية عديدة، وبالمدارس والحسينيات والهيئات الدينية والتجارية والأمنية التي أقاموها لأغراض أمنية في الجنوب والوسط والشمال، وخاصة في مدن كان دخول الجندي الإيراني إليها نوعا من أحلام العصافير مثل الرمادي والفلوجة وسامراء وبيجي والموصل وتكريت. ويفعلونه أيضا وكالة بواسطة “أولادهم” المطيعين المخلصين، نوري المالكي وهادي العامري وأبي مهدي المهندس وقيس الخزعلي، وجيوش المجندين الموشحين بعصائب الحشد الشعبي، ورايات فيلق بدر وباقي الميليشيات المدججة بكل أنواع السلاح، والتي يديرها ويضبط حركتها وسكونها ضباطٌ وخبراء “ضيوف” قادمون من الجارة إيران، بالإضافة إلى وكلاء آخرين فضائيين غير مكشوفين مزروعين في القصر الجمهوري ومكاتب رئاسة الوزراء والبرلمان والوزارات والمصارف والمستشفيات والسفارات والمراقد والعتبات والحسينيات وأسواق الخضر ومواقف السيارات، فقط لإشعار المواطن العراقي الشيعي قبل غيره بأنه أسير وأن عليه ألا يغادر بيت الطاعة، وبأن المُحرمَ عليه قطعيا، هو الاعتراضُ على أي شيء يراه ويسمعه ويلمسه في الشارع وفي منزله، وفي أماكن عمله وعبادته، وممنوعٌ عليه، بالقلم العريض، أيُ تفكير، مجرد تفكير، بالتخابر أو التعامل أو التفاهم أو التعاون مع “أعداء” الجمهورية الإسلامية الإيرانية العرب والأميركان، سرا أو علانية، والعاقبة للمتقين. ألم تر كيف يتقاطر فرسانُ المحاصصة العراقيون، شيعة وسنة، عربا وأكرادا، إلى طهران طلبا للنصيحة والرأي والقرار كلما نشأ بينهم خلاف على وزارة أو سفارة، أو عندما يتهدد مناصبهم ومكاسبهم خطر داهم من حاسد أو منتفض أو متظاهر حاقد ولئيم؟ ولتذكير من لا يتذكر نسوق هذا المثال. كان باقر الحكيم، وهو مؤسس المجلس الأعلى وفيلق بدر، لا يقطع زياراته ومحاضراته في الكويت والسعودية، ولقاءاته المعلنة والمستترة فيها بالمسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين وأصحاب الملايين، ولا يرفض الهبات المالية والعينية من حكومات أو مخابرات أو شيوخ أو أمراء، ثم يعود إلى وطنه “الثاني” إيران فلا ترى فيه سلطات الولي الفقيه متمردا، ولا متآمرا ولا خارجا على طاعتها، بل كان يعود أكثر احتراما وتقديرا من الإمام ورجاله الكبار قبل الصغار. والسبب مجهول. ومثلُ باقر الحكيم عشراتٌ من العراقيين الملتزمين التزاما ثابتا بخدمة دولة الإمام، ودولة وريثه، بالغالي والنفيس، يلتقون بملوك وأمراء وشيوخ عرب وعجم وترك، وبنواب وشيوخ ومدراء مخابرات أميركيين وأوروبيين، وحتى إسرائيليين، ثم يعودون إلى بغداد، ويطيرون إلى طهران، ولا حساب ولا كتاب، والضرورات تبيح الممنوعات وللتقية أحكام. وخلاصة هذه المقالة هي أن على زملائنا الإعلاميين العرب والعراقيين بوجه خاص، أن يتعقلوا في تقدير أهمية زيارة مقتدى للرياض، وأن يضعوا “القـُبلة” التي طبعها مقتدى على خد الوزير السبهان في إطارها العادي الأخوي الطبيعي، وألا يُحملوها أكثر مما تحتمل. وذلك لسبب بسيط هو أن مقتدى ليس سهلا، ولا مغفلا، ولا جاهلا بواقع الحال. ومؤكد أنه لا ينوي ولا يريد، ولا يطيق مكاسرة السكين الإيرانية الباطشة المتربصة بكل رأس وطني عراقي حر ونزيه مثله. وأغلب الظن أنه في الرياض في مهمة نوايا حسنة لرأب الصدع وتطييب الخواطر، خصوصا وأن النظام الحاكم في إيران يمر بأقسى مراحل حياته هذه الأيام، وهو في حاجة إلى أي جهد يبذله قريب أو بعيد لكي يساعده على تبريد جبهاته الحامية في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن والعراق، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ورغم أن “المصادر المطلعة” لم تنقل لنا، كعادتها، تفاصيل ما دار خلف الأبواب المغلقة بين مقتدى ونائب الملك السعودي، إلا أنها تكهنت بأن هناك خططا سعودية بأوامر أميركية، تهدف إلى اختراق الشارع العربي الشيعي العراقي، بالتعاون مع الصدر وأمثاله من الشيعة العرب العراقيين المعتدلين، لمواجهة الوجود الإيراني في العراق. كما بشرتنا “المصادر المطلعة” بأن عمار الحكيم على وشك أن يشق عصا الطاعة على الولي الفقيه، وبأن يكون القائد الشيعي “العربي” العراقي الثاني الذي سيتوجه إلى الرياض، قبيل إعلان تياره الانتخابي الجديد الإسلامي السياسي المعتدل غير الخاضع للهيمنة الإيرانية، بالتحالف مع الصدر وحيدر العبادي، لمواجهة تيار نوري المالكي وهادي العامري وأبي مهدي المهندس وقيس الخزعلي وباقي شلة الإسلام السياسي المتطرف العنيد. لكن الرد لم يتأخر طويلا. فقد صفع الحكيم تخيلات “المصادر المطلعة” بعظمة لسانه، خلال استقباله وفدا من الإعلاميين الإيرانيين، حسب وكالة “تسنيم” الإيرانية، معلنا أنه “رفض دعوة لزيارة السعودية، مشترطا خروج القوات السعودية من البحرين ووقف قتل الشعب اليمني”. ورحم الله امرئا عرف حدَّه فوقف عنده. نعم إن زيارة مقتدى للسعودية حدثٌ مهم وخطوة إيجابية جريئة. ولكنها ليست الزير الخارج لتوه من البير. أهم ما في الزيارة أن نائب الملك السعودي أقر بأخطاء الإدارات السعودية السابقة في ما يختص بالعراق. إذ كان عليها، من أول الاحتلال الأميركي، أن تسارع إلى احتضان الشيعة العرب العراقيين أكثر مما فعلت مع غيرهم، على الأقل لمنع إيران من إيهامهم بأنها الوحيدة الحريصة على حمايتهم من غدر أشقائهم العرب الكارهين لكل شيعي، دون تمييز بين من كان وطنيا مخلصا ونزيها وشريفا وبين آخر خائن وعميل لا يتردد في قتل جنود وطنه وضباطه، حتى وإن كانوا من أبناء طائفته، لنصرة جيش عدو لئيم. أما الحل الصحيح لمأزق العراق فهو ليس في بغداد، ولا في الرياض، بل هو هناك، في إيران ذاتها. فما دام النظام قائما في طهران فلن يعرف العراق ولا المنطقة أمنا وسلاما. كاتب عراقيإبراهيم الزبيدي
مشاركة :