السينما اليوم ربما تكون أكثر إنتاجا، لكن الثقافة السينمائية غابت وغاب معها كل ما له علاقة حقيقية بالتذوق السينمائي، وهي حالة ليس من الممكن الخروج منها إلاّ بمراجعة شاملة لمعنى وهدف الثقافة المجتمعية عموما.العرب أمير العمري [نُشر في 2017/08/09، العدد: 10717، ص(16)] الرأي الذي قد يصدم البعض أن الثقافة السينمائية، في مصر والعالم العربي كله، قد توقفت مع نهاية السبعينات من القرن الماضي ولم يعد لها وجود حقيقي اليوم. ربما يشاهد جمهور اليوم من الشباب أفلاما أكثر مما كنا نشاهد في السبعينات والثمانينات، فوسائل الميديا الحديثة: التلفزيون والفضائيات المتخصصة والفيديو والأسطوانات المدمجة والإنترنت، كلها وسائل لم تكن متاحة لنا عندما كنا نتطلع إلى مشاهدة الأفلام الفنية الحديثة التي خرجت من معطف حركات التجديد في السينما العالمية: الواقعية الإيطالية والموجة الجديدة الفرنسية والسينما الجديدة في أميركا اللاتينية والسينما البريطانية الحرة.. إلخ. عرفت مصر وتونس والجزائر والمغرب وسوريا ولبنان منذ الخمسينات، حركة نوادي السينما، التي يمكن القول إنها كانت مدرسة حقيقية للثقافة السينمائية، ففيها تعلمنا كيفية مشاهدة فيلم، كيف نشترك مع غيرنا في المشاهدة، نحترم ما هو معروض على الشاشة، نجلس في صمت، نتأمل ونفكر ونستمتع. واليوم اختفت تقاليد المشاهدة تماما، حتى في عروض المهرجانات السينمائية التي يطلقون عليها “الدولية”، فقد أصبح من المألوف أن نرى الجمهور يدخل قاعة العرض في أي وقت حتى قرب نهاية الفيلم، ويظل قسم آخر من الجمهور يغادر قاعات العرض في كل الأوقات، دون أن يؤدي هذا السلوك إلى أي اعتراض، ودون أن يلفت انتباه المسؤولين. وقد أصبح استخدام الهواتف المحمولة أمرا معتادا، وإذا حدث أن اعترض أحد يناله الكثير من الإهانات، أو ينظر إليه على أنه ينتمي إلى الكائنات المنقرضة. كانت نوادي السينما تعرض أفلاما من مدارس سينمائية محددة بغرض دراسة أساليب مخرجيها، وتعرض أفلام مخرج ما من أجل دراسة كيف تطور أسلوبه. وكنا نتعلم كيف نناقش الأفلام بعد عروضها، أسلوب وعمل المخرج، ثم كنا نمارس أيضا كتابة النقد على صفحات النشرات التي كانت تصدرها نوادي وجمعيات السينما، والتي إذا ما تأملناها اليوم نجد أنها تعتبر كنزا ثقافيا حقيقيا نادرا. أصبحت الأجيال الجديدة تشاهد أفلاما أكثر، ولكن على شاشة الكومبيوتر أو اللابتوب الصغيرة أو حتى على شاشات الهواتف المحمولة في عزلة فردية مخيفة، بينما يكمن جانب كبير من سحر السينما في كونها طقسا جماعيا للمتعة المشتركة والإحساس المشترك. يميل الشباب أكثر إلى البحث عن أحدث الأفلام، ويهملون الكلاسيكيات القديمة خاصة الأفلام الصامتة رغم أنها أصبحت متوفرة أكثر عبر الأسطوانات المدمجة التي يمكن تشغيلها على شاشات تلفزيونية كبيرة أكبر كثيرا مما كان متوفرا لنا في الماضي، ومن دونها ليس من الممكن فهم تاريخ السينما. أصبحت كتابة التعليقات السريعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المادة التي يعتمد عليها هواة السينما في تقييم الأفلام، يتبادلون الآراء بشأنها، مع إهمال الكتب والبحث الجاد عن مراجع جديدة، رغم أنها أصبحت أكثر توفرا على شبكة الإنترنت، فقد أصبحت كتابة الآراء وإصدار الأحكام السريعة التي تصل حد أن تشطب بسهولة على فيلم ما من الأفلام الفنية البديعة، أهم كثيرا من القراءة والبحث والتفتيش عما يكمن وراء هذا الفيلم، عن تاريخ مخرجه والظروف التي صنعه فيها، وعلاقة الفيلم بأعماله السابقة، وأصبح بالتالي تاريخ السينما مجرد نقاط متفرقة، أي أفلاما منفصلة عن سياقاتها وتاريخها. تركت المسلسلات التلفزيونية تأثيرا كبيرا على عقلية المشاهد وعلى طريقته في استقبال الأفلام، فأصبح يميل أكثر إلى الفيلم الواضح القسمات، والشخصيات التي يسهل معرفة دوافعها، ولم يعد مقبولا أن يترك الفيلم مساحة من الخيال للمتفرج، أو أن يحلق في فضاء التأمل الفلسفي بعيدا عن الواقع المباشر: الاجتماعي والسياسي، بعد أن أصبحت السياسة هاجسا عند الجمهور، فأفلام النقد والجرأة السياسية صارت أهم عند المتذوق من أفلام التأمل الفلسفي. السينما اليوم ربما تكون أكثر إنتاجا، لكن الثقافة السينمائية غابت وغاب معها كل ما له علاقة حقيقية بالتذوق السينمائي، وهي حالة ليس من الممكن الخروج منها إلاّ بمراجعة شاملة لمعنى وهدف الثقافة المجتمعية عموما. ناقد سينمائي مصريأمير العمري
مشاركة :