لقد طويت صحف الماضي، والمستقبل وحده هو الفرصة المواتية؛ وإذا لم نستثمرها فإننا نقدم هدية ثمينة لأعداء المملكة لتحقيق سبق فيها.. باحث أميركي في جامعة الدفاع الوطني قدم الأسبوع الماضي في كامبريدج ورقة عن قانون "جاستا"، ما لفت انتباهي أنه كتب في مقدمة عرضه المرئي "هذه الورقة لا تمثل وجهة النظر الرسمية لحكومة الولايات المتحدة الأميركية"، الباحثون المستقلون لا ينصون على تلك البراءة، ولكن ربما له في ذلك مآرب أخرى. طرحه العاطفي لأحداث 11 سبتمبر 2001 وكأنها حدثت قبل يومين مكتنز بالتعبيرات البكائيات تأكيد الاتهامات، والجزم بمسؤولية دولة بريئة دون تقديم دليل مادي سوى ما يقال إن 15 من المنفذين من مواطنيها. الاستعلاء والنرجسية في احتقار إمكانات الآخر لا تخرج فقط عن أدبيات البحث العلمي ولكنها تضع المنهجية ذاتها في دائرة الاتهام. أميركا لم تنس تلك الأحداث الإرهابية ولن، والعالم أيضا لم ينسها، وإنما كان من المتوقع أن مضي هذه السنوات قد أتاح للعقل والمنطق فرصة للسؤال عن المستفيد من تلك الأحداث البشعة. بعض المثقفين العرب والسعوديين تحديدا لا يناقشون التورط السعودي فيها، بل يعتبرونه حقيقة ودليلهم عليها اعتراف أسامة بن لادن الذي جرد من الجنسية السعودية قبل تلك الأحداث بسنوات. عدد لا يستهان به من النخب الأميركية والغربية مازالت مترددة في الجزم باتهام السعودية وترى -إلى جانب شكوكها العلمية- أن أية جريمة يكون وراءها مستفيد، والسعودية هي الخاسر الأكبر. قولبة الاتهام الموجه ضد السعودية ليس أمرا جديدا، وإنما الابتزاز المطرد هو المستهجن، وهو ليس ابتزازاً للسعودية وإنما للعالم الإسلامي بعمومه. اتهم المسلمون عموما بالإرهاب سنة وشيعة بعد الأحداث بساعات، واستعاد البيت الأبيض آنذاك مصطلح "الحرب الصليبية" ثم ما لبث أن اعتذر الرئيس جورج دبليو بوش في زيارة سريعة للمركز الإسلامي في واشنطن، ومن ثم أصبح الإرهاب السني هو المتهم بالتطرف والإرهاب. الرئيس أوباما كان أكثر واقعية عندما اقتراح تحرير 85% من المسلمين من ربقة الإرهاب وقصر هذه التهمة على فئة من السنة هم "السلفيون". وقد دخلت تحت هذا التصنيف دول عديدة منها السعودية وباكستان وقطر واليمن والأردن والمغرب والجزائر وليبيا ولبنان حيث يتفاوت نسبة التمثيل "السلفي" بين سكان تلك الدول. وخلا السعودية وقطر يتضح عوز الدول المشار إليها إلى الثروة، ولذلك تم تجاوزها، ولف سلسلة الإرهاب حول عنق "الوهابية"؛ وبذلك تكون السعودية هي المتهم الوحيد عن تصدير التطرف وتمويل الإرهاب بزعمهم، وهي أيضا الدولة القادرة على دفع الكثير من الأموال للدفاع عن سمعتها. أستطيع القول بأن استغراق الجهد في الدفاع عن الماضي دون ظهور أدلة تؤكد براءة السعودية وتكشف أوراق المستفيد الحقيقي من لوثة التطرف والإرهاب هو جهد ضائع. لقد طويت صحف الماضي، والمستقبل وحده هو الفرصة المواتية؛ وإذا لم نستثمرها فإننا نقدم هدية ثمينة لأعداء المملكة لتحقيق سبق فيها. سمو الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي برؤيته، ومنجزه، وعزمه هو المستقبل. وإثراء المكتبة العالمية بمعلومات، ونقاشات لسياساته، وتوضيح المثير للجدل منها هو الذي سيشكل الذاكرة العالمية المستدامة عنه، وبالتالي عن المملكة. كلمة السر هنا هي "التغيير"، فالمملكة فعلا تتغير، ورائد هذا التغيير هو سموه. شركات العلاقات العامة، ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي تشكل ذاكرة مؤقته وقصيرة لا تلبث أن تتلاشى، بينما تعتبر المكتبة التي تضم المؤلفات الجادة والرصينة من كتب وتقارير وأوراق سياسات ومخرجات مؤتمرات وورش عمل هي الذاكرة التي سترافق سموه والمملكة في المستقبل. إنها فرصة ثمينة إما أن نبادر إليها بمعلومات إيجابية ومحايدة، وإما أن يستغلها أعداء المملكة بمعلومات سلبية ومضللة.
مشاركة :