القاهرة: «الخليج»اختلط مفهوم التدين الصحيح بالتطرف والتشدد في أذهان كثير من الشباب، ما أدى إلى انحراف في الفكر والسلوك، والحرمان من سماحة الإسلام ورحمته وعدله، الأمر الذي يتطلب توضيحاً وتفصيلاً من العلماء لوضع خطوط فاصلة بين التدين الصحيح والتدين المغشوش الذي يروج له المتطرفون في كل مكان من أرجاء عالمنا الإسلامي، الذي ابتلي بفصائل وجماعات شوهت صورة الإسلام وألحقت بالمسلمين الأذى النفسي والبدني، جرّاء فهمها العقيم وسلوكياتها العدوانية.العالم الأزهري د. شوقي علام مفتي مصر وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر من أكثر العلماء انشغالاً بتوضيح معالم الدين الصحيح ومواجهة كل صور الخروج على الإسلام.. ولذا التقت به «الخليج» لتبصير الجميع، خاصة الشباب بالفرق بين التدين المحمود والمرغوب والتشدد المرفوض.. وفيما يلي نص حوارنا معه: } اختلط مفهوم التدين الصحيح بالتشدد في أذهان بعض الشباب وأصبح التكلف في الدين والتعسير على النفس في نظر البعض من مظاهر التدين والتقوى.. كيف نحمي شبابنا من هذا المفهوم الخاطئ للتدين؟ للأسف هؤلاء الشباب لا يفهمون الدين على حقيقته، والتدين باعتباره علاقة فطرية بين العبد وربه يرفض ويدين كل أشكال العنت والتكلف وتحميل النفس أكثر مما تحتمل وحرمانها من الطيبات، ظناً منهم بأن هذا الحرمان هو علامة تقوى والتزام ديني وهو في الحقيقة ليس كذلك. فالله -سبحانه وتعالى- لم يخلقنا ليعذبنا ويشق علينا؛ ولذلك لا ينبغي أن يرتبط مفهوم التدين بما يشوبه الآن في أذهان البعض من اختلال واهتزاز.لذلك نحن في أمس الحاجة إلى أن نوضح للجميع، خاصة الشباب المفهوم الصحيح للدين والتدين حتى نحميهم من الأفكار والأقلام التي تطرق الموضوع إما تشدداً أو تهاوناً أو ما يعبر عنه عند أهل العلم بالإفراط والتفريط.واجب العلماءإن واجب علماء الإسلام في كل مكان أن يوضحوا للشباب وللناس أجمعين ما هو مفهوم التدين الصحيح، وكيف نمارسه من دون إفراط أو تفريط، وأن يكون شعارهم في ذلك قول الحق سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، وقوله سبحانه وتعالى على لسان رسولنا العظيم: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).إننا نحن المسلمين أنصار دين يتميز بالسماحة واليسر والرحمة والسهولة والبساطة، والله سبحانه وتعالى يصف لنا أمر هذا الدين فيقول: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الدين يسر) ويقول أيضاً: (بعثت بالحنيفية السمحة) وبقدر وضوح هذه المعاني بقدر ما أصبحنا اليوم أحوج إلى بيان حقيقة هذا الدين وتعريف الناس بها، فكثير من معاني الإسلام وألفاظ الشرع الشريف ومفاهيمه بعيدة عن عقول الناس وممارساتهم الخاطئة نتيجة الأفهام المغلوطة التي تسلبها معانيها الجميلة السامية والرفيعة.من المؤسف أن لفظ «الدين»، ذلك الاصطلاح الجميل البهي أصبح في أذهان البعض فزاعة تقض مضاجع الناس بدلاً من أن تحدث في أنفسهم الطمأنينة والسكينة والفرح والسرور؛ وذلك بفعل مفهوم خاطئ يسلب من هذا المصطلح جماله وبهاءه، ومن الخلل والخلط الحادث في هذا المصطلح أننا صرنا نسمع لفظ «التدين» وهو الممارسة الشخصية للدين بديلاً عن لفظ الدين ذاته أحياناً، فحدث خلط بين ممارسة الناس وتطبيقهم للدين وفق رؤاهم واجتهاداتهم وأفهامهم وبيئاتهم وطباعهم وعاداتهم، والدين نفسه باعتباره التنزيل الإلهي المنزه والمقدس الممثل في الوحيين الشريفين القرآن الكريم والسنة المطهرة.} ما المفهوم الصحيح للتدين؟ مفهوم التدين الصحيح لخصه القرآن الكريم في قول الله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ».. هذه الآية الكريمة في شطرها الأول تبين لنا مفهوم التدين الواقعي الصحيح في المنظور الإلهي، وهو الاستقامة على الأمر.. وفي سورة الحمد نسأل الله ليلاً ونهاراً بعبارة (هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، ولا شك أن من يسير على الطريق المستقيم من دون اعوجاج يكون قد استقام على طريق الله.. وهنا علينا أن نقف عند المعنى الصحيح والمفهوم الحقيقي للاستقامة؛ إذ أن كثيراً من الناس، خاصة الشباب المتحمس يظن أن الاستقامة تتحقق بالتلبس ببعض الشعائر الظاهرة التي تعطي من حولنا انطباعاً بأننا على النهج القويم والصراط المستقيم، فإذا ما نال شهادة الخلق نسي نظر الحق إلى باطنه وقلبه، فأهمل تزكية نفسه ورآها على خير وهدى مهما ارتكبت من آثام وتلبست بالمعاصي؛ بل والكبائر.التدين الحقيقي} كيف يواجه المسلم هذا الخلل في الوعي والتفكير ويستقيم في علاقته بخالقه وعلاقته بالناس ولا يقف عند الشكليات؟ التدين الحقيقي ليس مظاهر شكلية، بل هو إصلاح للباطن والمقصود به في المقام الأول إصلاح نفس الإنسان وقلبه بحيث يحوي المعاني الربانية الحسنة كالإخلاص والإيمان واليقين والتوكل والصبر والإنابة والخشوع والخضوع، فالقلب محل نظر الله تعالى، وإذا صلح صلح سائر الجسد وإذا فسد فسد سائر الجسد؛ ولذلك يجب أن يُعطى الأهمية العظمى والأولوية الكبرى في تحقيق معنى الاستقامة والإصلاح، وليس هذا تهويناً من شأن الظاهر أو دعوة لإهماله أو التخلي عنه، بل من باب وضع كل في موضعه ومكانه المناسب، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».. وتزكية القلب والنفس لها ثمرة عظيمة في حسن خلق الإنسان وتحليه بمكارم الأخلاق ونبيل الصفات؛ حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصوم والصلاة».وَحسن الخلق على ثلاث منازل أو درجات: أولاها أن يحسن المسلم خلقه مع أمر الله تعالى ونهيه، فإذا أحكم هذا تخطى إلى المنزلة الثانية، وهي أن يحسن خلقه مع جميع الخلق على سبيل المساعدة والمقاربة والمساهلة واللين والرفق ومعاشرة الجميل فإذا حكم هذا تخطى إلى المنزلة الثالثة، وهي أن يحسن خلقه مع تدبير الله تعالى في كل أموره فلا يريد إلا كل ما يريد الله ولا يشاء إلا ما يشاء الله.فإذا حقق الإنسان هذه المراتب الثلاث من مكارم الأخلاق استكمل حسن الخلق واستراح قلبه واطمأنت نفسه واستقامت جوارحه ووجد ربه سبحانه كافياً كريماً مولى وناصراً فنعم المولى ونعم النصير.إن الإنسان الذي جاهد نفسه وزكاها واستقام على أمر الله ونهيه، وحسن أمره وخلقه، لن يكون أبداً مندفعاً ولا منفعلاً ولا خاضعاً لفعل الناس فيه؛ بل يقابل الحسنة بالحسنة والإساءة بالحسنة كذلك، وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام على تزكية بواطنهم وقلوبهم ونفوسهم وأرواحهم فإن هم فعلوا ذلك وجاهدوا في الله تعالى حق الجهاد حسنت أخلاقهم وعم الكون خيرهم، ولا شك أن الانشغال بالظواهر وتنميقها مع إهمال البواطن وإن خربت، من الداء الوبيل الذي يدمر التدين ويحيد به عن الوضع الرباني الإلهي.خلط مرفوض} كيف نجنب المسلم الخلط بين الدين بصورته المثالية والتدين مع ما يصاحبه من ممارسات قد تكون خاطئة؟ الدين مقدس، لأنه يعني الحقيقة الثابتة التي أرادها الخالق لنا، والتدين سلوك بشري قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً؛ لأنه نتاج فهم بشري للدين، والناس تختلف مستوياتهم العقلية، ومن الظواهر السلبية للأسف الشديد خلط كثير من الناس من غير قصد بين الدين باعتباره وحياً إلهياً، والتدين باعتباره كسباً بشرياً ما أدى إلى ضبابية في الرؤية، وتشوش في فهم الدين.والواقع أن صورة الدين الجميلة قد يلحقها شيء من التشوه بسبب ممارسات بعض المتدينين غير اللائقة، أو البعيدة عن الدين، مما يولد نفوراً عند كثير من الناس، ومن ثم اتهاماً للدين، والدين من ذلك براء، وإنما العيب في الناس لو كانوا يفقهون. فالعيب في المتدين الممارس الذي نفر بسلوكه وفتن الناس في دينهم.ليس من الإسلام} بعض المتدينين يلجؤون إلى التشدد من باب الاحتياط حتى لا يقعوا في المحظور.. هل هذا مقبول شرعاً؟ هذا أمر مرفوض شرعاً وعقلاً، فالتشدد مرفوض، وهو معصية لله والرسول؛ حيث جاءت العديد من النصوص الشرعية تحذر منه وتؤكد ضرورة التيسير، باعتباره معلماً أصيلاً من معالم هذا الدين، وليس منة يمتن بها الفقهاء على المكلفين، فالفقهاء ليسوا مشرعين ولا يملكون توسعة أو تضييقاً لم تأذن بهما الشريعة الغراء، وإنما الفقهاء نقلة وشراح ومجتهدون في استنباط الأحكام في إطار سياج لا يخرجون عنه هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأصول التيسير والسعة التي جاء بها الإسلام واضحة كل الوضوح في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يقول: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».. فهذه الآية الكريمة توضح أن الله -سبحانه وتعالى- أراد من تشريعاته المختلفة رفع الحرج والمشقة عن المكلفين، وهذا عام ملحوظ في كل التشريعات وليس مخصوصاً بالصيام فقط، فالله تعالى لا يريد إعنات الناس بأحكامه وإنما يريد خيرهم ومنفعتهم وهذا أصل في الدين يرجع إليه، ومنه أخذت القاعدة الفقهية المشهورة (المشقة تجلب التيسير)، وقد جاء في القرآن الكريم (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فالله تعالى لا يكلف عباده فوق طاقتهم وقدرتهم؛ بل لا يصل بالتكليف أبداً إلى الدرجة العليا مما يطيقه الإنسان بحيث يستنفذ طاقته وقدرته، بل يكون التكليف في دائرة السعة التي تبقي للمكلف من القوة والنشاط والقدرة، ما يسع لاستيعاب أوجه نشاطات الحياة المختلفة.على هؤلاء الذين يجنحون للتشدد أن يتأملوا قول الحق سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا».. وأن يدركوا أن الإنسان مخلوق ضعيف مهما عظمت وقويت بنيته، ومهما استطاع بذكائه وعقله أن يسيطر على مقدرات الكون من حوله، إلا أنه ضعيف بقواه النفسانية وبرغباته الشهوانية التي تضعف سيطرة القوى العقلية على سائر تصرفاته، وهو ضعيف أيضاً بسيطرة القوى الغضبية عليه في كثير من الأحيان، فكل هذه الانفعالات تحد من عمل العقل وهو مكمن القوة ومناط التكليف في الإنسان، فالله سبحانه وتعالى أراد بمخلوقه الضعيف هذا الرحمة والتخفيف ورفع الحرج ودفع الضرر.والتيسير كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، وهو القائل: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».. والسيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً».
مشاركة :