خطاب ترامب ضد حزب الله في حضرة رئيس وزراء لبنان، جاء بمثابة إبلاغ لحكومة بيروت ممثلة برئيسها، أن الولايات المتحدة تتعامل مع الحزب كما تتعامل مع التنظيمات الإرهابية الأخرى كـداعش والنصرة وأشباههما.العرب محمد قواص [نُشر في 2017/08/11، العدد: 10719، ص(9)] سمع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في واشنطن ما كان يجب أن يسمعه حين كانت حشود تحالف 14 آذار تجتاح ميادين بيروت غداة اغتيال والده. أدرك الرجل في مطالعات مستقبليه هناك عزما يستند على خطط تتبناها الإدارة الأميركية لمواجهة حزب الله في لبنان ووقف انتشاره في بلدان المنطقة. وما لم تكشفه مداولات الغرف المغلقة جاهر به الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أفاض في شن حملة ضد الحزب. فسكت الحريري في واشنطن وسكت زعيم حزب الله في بيروت. لم يعلّق اللبنانيون آمالا كثيرة على الضجيج الذي ارتفع في العاصمة الأميركية بمناسبة زيارة الوفد اللبناني الرفيع المستوى للعاصمة الأميركية الشهر الماضي. والحال أن “أناشيد” ترامب المفاجئة، ورغم أنها جاءت مكتوبة لا ارتجال بها، إلا أنها لم ترفع منسوب الثقة التي من الممكن للبنانيين أن يأمنوا لها، كما أنها لم تبدّل من أجندات فريق لبناني آخر مازال يعلّق حساباته على مشجب الممانعين من طهران إلى دمشق والأحياء المجاورة. ولئن ارتاحت آذان الحريري لعزف ترامب على وتر حزب الله، غير أن الأمر في قناعته كما قناعة حلفائه، لا يتجاوز كونه سلوكا من نمط التغريدات التي يرتجلها رجل أميركا الأول، والتي لا يزال الأميركيون أنفسهم يعتبرون أغلبها خارج سياق الدولة ورصانة أهل الحكم. على أن المراقبين للشؤون الأميركية يعرفون أن الرئيس الأميركي لا ينطق عن الهوى في هذا الموضوع، وأن أمر حصار حزب الله ومواجهته بات أمرا مرتبطا بالأمن الإستراتيجي للولايات المتحدة، وأن الإجراءات التي تتخذها وستتخذها واشنطن، لا تعدو كونها استكمالا لنهج اعتمدته “الدولة العميقة” في عهد الرئيس السابق باراك أوباما. وعلى هذا فإن خطاب ترامب ضد حزب الله في حضرة رئيس وزراء لبنان، جاء بمثابة إبلاغ لحكومة بيروت ممثلة برئيسها، أن الولايات المتحدة تتعامل مع الحزب كما تتعامل مع التنظيمات الإرهابية الأخرى كـ“داعش” و“النصرة” وأشباههما، وأن العقوبات المالية الأميركية التي تطال الحزب والمرتبطين به هي جزء من مشهد كلي يكمّل مهمات القوات الأميركية في المنطقة، كما قد يتّسق مع مهمات التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة واشنطن. بنى سعد الحريري فلسفته للعودة بعد غياب للانخراط بالعملية السياسية في لبنان على مسلّمات في علم السياسة كان قد أهملها قبل ذلك. اعترف الحريري بعد نفي سياسي طويل أن عليه أن يتعامل مع الواقع اللبناني كما هو، والإقرار بموازين القوى الداخلية والخارجية. أدرك الرجل أن بلاده تتأثر بالمحيط ولا تؤثر به ولا يمكنها ذلك. اعترف السياسي الشاب أن مشكلة حزب الله ومعضلة فائض سلاحه ليست مسألة على لبنان والحريرية السياسية حلها.بنى سعد الحريري فلسفته للعودة بعد غياب للانخراط بالعملية السياسية في لبنان على مسلّمات في علم السياسة كان قد أهملها قبل ذلك جاء من يذكّر الرجل أن فائض السلاح الفلسطيني في لبنان فجّر حربا أهلية لاعتقاد بعض اللبنانيين بإمكانية أن يتعاملوا مع هذا الخصم بأدوات محلية لبنانية، إلى أن أتى الاجتياح الإسرائيلي معطوفا على مناخ دولي مؤات فاقتلع ذلك السلاح، وأقنع اللبنانيين المؤيدين والمعادين لمنظمة التحرير أن حسابات الكبار تطيح حين تنضج بزواريب “الفاكهاني” وأحلام الثوار. لم يعلّق سعد الحريري ولم يرد على كلمات رئيس الولايات المتحدة المنتقد والمدين لحزب يفترض أنه لبناني جزء من نظام لبنان السياسي ومن مجلس نوابه وحكومته. افترض رئيس الحكومة اللبنانية أن كلام ترامب يعبّر عن أجندات الكبار التي تتجاوز مواقفه وآراءه وتكتيكاته المحلية لمجاراة الأمر الواقع اللبناني. وافترض الحريري أيضا أنه واحد من أصحاب الدعوة إلى حكم الدولة بدل حكم الدويلة، وأنه دفع ثمن ذلك نفيا وإقصاء، بعد أن دفع والده رفيق الحريري ثمن ذلك اغتيالا، فليس عليه أن يمحض موقف واشنطن المتأخر أي شرعية لا تحتاجها الولايات المتحدة ولا رئيسها. يعمل سعد الحريري وفق أجندة داخلية أنتجت عهدا وتوّجت للجمهورية رئيسا وأثمرت للبلد حكومة. يسعى الرجل للحصد في الحقول التي يملكها دون تعويل على حصاد تعِدُ به حقول الآخرين. يريد من واشنطن دعما وتسليحا للجيش اللبناني، ورد أذى العقوبات المقبلة ضد حزب الله عن مؤسسات البلد المالية والاقتصادية. أما إذا كانت الولايات المتحدة تخطط لمعاركها الخاصة ضد امتدادات إيران في المنطقة، فتلك خياراتها التي لا يقوى البلد إلا تمني اللطف في تداعياتها. تجهد بيروت لخوض حرب دقيقة ضد الإرهاب المتسلل داخل أراضيها. وتراقب واشنطن بدقة مآلات معارك الجرود، سواء تلك المحيطة بعرسال بعد جلاء “النصرة”، أو تلك القريبة من رأس بعلبك والقاع على سلسلة الجبال الشرقية في لبنان لإجلاء “داعش”. تحط الطائرات العسكرية الأميركية داخل البقاع اللبناني على بعد خطوات من مواقع حزب الله وخطوات أخرى من تحصينات الجيش اللبناني وخنادقه بوجه تنظيم البغدادي. وفي سريالية هذا التعايش بين الحزب و“الشيطان الأكبر” داخل جبهة مكافحة الإرهاب، تطل مندوبة واشنطن في مجلس الأمن معلنة العزم على قلب قواعد الاشتباك المعمول بها في جنوب لبنان منذ حرب عام 2006.قلق حزب الله في بيروت ينعطف على قلق الحاكم في طهران من تلك الورشة الأميركية الغامضة التي يتواطأ فيها الروس لم تعد الولايات المتحدة تريد للتواجد العسكري الدولي أن يكون “خيريا” في مراقبة خطوط وقف إطلاق النار على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. تعلن نيكي هايلي المندوبة الأميركية الدائمة في مجلس الأمن أن بلادها تسعى لتوسيع مهمة قوات حفظ السلام في جنوب لبنان “يونيفل”، لتشمل تعزيزها و“زيادة قدرتها والتزامها بالتحقيق في أي انتهاكات والإبلاغ عنها”، محذرة من أن انتشار الأسلحة “غير المشروعة” في جنوب لبنان “يشكل تهديدا لأمن واستقرار المنطقة”. وفي ذلك إشارة اتهام مباشر إلى حزب الله. بكلمة أخرى، تسعى واشنطن إلى ترتيب وضع جديد يتيح منع انتشار أسلحة في تلك المنطقة لا تبيحها القرارات الأممية التي خرجت بعد حرب تموز 2006، والتي تنظم مُذاك ترتيبات العيش اليومي على جانبي الخط الأزرق. يصوّت مجلس الأمن في 30 من الشهر الجاري على التمديد للـ“يونيفيل”. لا يبدو أن واشنطن ستمرر الأمر بصفته تمديدا روتينيا يحترم “ستاتيكو” تعيشه المنطقة وقوات الأمم المتحدة منذ نهاية الحرب هناك. في واشنطن من يعتبر أن هدف تقويض النفوذ الإيراني يتطلب بالدرجة الأولى إبعاد ميليشيات إيران عن الحدود مع إسرائيل، وهو أمر تم احترامه بدقة في التفاهمات الأميركية الروسية التي أنشأت “منطقة خفض التوتر” في جنوب غرب سوريا، وأن هذا المطلب يتطلب تفاهمات دولية جديدة لا تعارضها الدول الخمس الدائمة في مجلس الأمن الدولي. ولمن لم يصله ضجيج هايلي في نيويورك، فإن سفيرة واشنطن إلى بيروت إليزابيت ريتشارد وزعت في الأيام الأخيرة على ساسة لبنان أجواء واشنطن الجديدة في هذا الصدد. يدرك حزب الله جدية المسعى الأميركي، وينظر بعين متوجّسة إلى ذلك الدعم الأميركي المتدفق على الجيش اللبناني بحجة محاربة داعش. لم يخف الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله امتعاضه من الأنباء التي تحدثت عن احتمال قيام قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بمساعدة الجيش اللبناني في عملياته العسكرية لتحرير الأراضي اللبنانية من تنظيم داعش، معتبرا أن ذلك يشكل “إهانة” للجيش. بيد أن المراقبين استغربوا أيضا أن امتعاض “سيد المقاومة” من خطاب ترامب أو إجراءات القوات الأميركية في لبنان، بما في ذلك الكشف عن تواجد قوات أميركية خاصة على الأراضي اللبنانية، بقي هادئا معتدلا لا يرقى إلى الصراخ الذي يصدر عنه في مناسبات أقل حرجا. في ذلك أن قلق الحزب في بيروت ينعطف على قلق الحاكم في طهران من تلك الورشة الأميركية الغامضة التي يتواطأ فيها الروس. وحين يحذر هنري كيسنجر من كارثة إذا ما ملأت إيران الفراغ الذي سيحدثه اختفاء “داعش”، فإن ذلك لا يستدعي تعليقا من سعد الحريري على كلام ترامب في واشنطن. صحافي وكاتب سياسي لبنانيمحمد قواص
مشاركة :