المعارك الأدبية بين الغيرة والتجديد

  • 8/12/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن شوقي الضحية الوحيدة في الأدب العربي، فقد وصل الحساد إلى أكابر أهل الضاد، ولعل أشهر معركة أدبية دونها التاريخ، هي معركة المتنبي مع أبو فراس الحمداني، والذي سطر فيها المتنبي أروع الأبيات بلاغة ونظمًا.احتاج الأدباء الجدد في النصف الأول من القرن العشرين إلى تجديد الحركة الشعرية وصناعة منهج جديد للهوية العربية، بعيدًا عن التقليد والتبعية، في اشكالها العضوية والبنائية واللغوية، وذلك عبر التجديد في الموضوعات والاستفادة من الأدب الغربي والاطلاع على الشعر العربي القديم مع الاستعانة بمدرسة التحليل النفسي والاتجاه إلى الشعر الوجداني. ولأجل هذه القيم الأدبية الجديدة ظهرت مدرسة الديوان الذي قاد نهضتها عباس محمود العقاد واتبعه في ذلك، الأديبين إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري. ولم تكن مدرسة الديوان شاذة عبثية ذات افكار وليدة وتطبيقات غربية، بل هي انفتاح على الثقافات بانفاس أدبية عربية، تجمع بين التجارب الغربية والسيرة الأدبية العربية الثرية. فقد كانوا يعتبرون القصيدة كائن حي بوحدة العضوية المتمثلة بوحدة الموضوع ووحدة الجو النفسي، بحيث لا يكون البيت وحده هو القصيدة. ولاجل هذا لم يسلم الأمير أحمد شوقي من هجمات هؤلاء المجددين من النقد اللاذع الذي قاد المعركة فيها عباس محمود العقاد ضد منهجه الذي اتهمه فيه بالجفاف والتصلب، بل جاوز ذلك حتى رفض ما كان يكتبه شوقي جملة وتفصيلا، واعتبر شعره تقليدا لا جديد فيه ولا روح ولا حياة. لم يكن الشاب عباس محمود العقاد بذلك الهجوم قاصدا الشهرة وصناعة عرش جديد خاص به، وانما لأجل المدرسة التي اراد صناعتها كما ذكر الدكتور سامي سليمان حين قال: التجني على أحمد شوقي ما كان إلا لظهور المدرسة بقوة حتى تنتشر اركانها بين الشباب ويدافعون عن منهجها الجديد وهذا ما حصل فعلا، فقد ظهر جيلا جديد من الشباب يؤيدون أفكار العقاد وكان على راس هؤلاء سيد قطب الذي كتب كتابا تحت عنوان (مهمة الشاعر في الحياة) والذي صدر بمقدمة الدكتور مهدي علام 1933، مادحًا فيه نظرية التجديد عند أدباء الديوان. ورغم كل هذه الهجمة على أمير الشعراء فإن الحق لا يقاس من قيمة مبدئية واحدة، بل أنه لم يثبت لدى الكثير من النقاد المعاصرين ما تدعيه جماعة الديوان على الأمير أحمد شوقي، فهو موهبة شعرية لا شك فيها ولا جدال وما كان إلا فريسة لهم، يهاجمونها لتظهر مدرستهم الجديدة بقوة وشراسة وتحدي كما عبر عن ذلك الناقد سامي سليمان. فإن أحمد شوقي يشهد له الكثير من الأدباء والشعراء على أنه مجدد ورائد في عصر النهضة، فقد استطاع الوصول للقارئ بروحه لا بجموده، حتى جسد تجربته بالتواصل بين الجديد والقديم. ولم يكن شوقي الضحية الوحيدة في الأدب العربي، فقد وصل الحساد إلى أكابر أهل الضاد، ولعل اشهر معركة أدبية دونها التاريخ، هي معركة المتنبي مع أبو فراس الحمداني، والذي سطر فيها المتنبي أروع الأبيات بلاغة ونظما، حينما كان أبو فراس يتهمه بالسرقة من شعراء آخرين. فعندما قال المتنبي في حضرة سيف الدولة: أعيذوها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم ضج أبو فراس وقال له من أنت (يا دعي كنده) حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه؟ فلم يرد المتنبي عليه إلا بمواصلة الأبيات قائلاً: سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم فأزداد أبو فراس بتلك الأبيات غيظًا ورد عليه قائلاً: قد سرقت هذا من (عمرو بن عروة بن العبد) حيث يقول: أوضحت من طرق الآداب ما اشتكت دهرًا وأظهرت أغرابًا وإبداعًا حتى فتحت بإعجاز خصصت به للعمي والصم إبصارًا وإسماعا وعندما زاد الجدال وعلت الأصوات غضب سيف الدولة ورمى المتنبي بالدواة حتى أصابت جبهته وجرحتها، فرد بالبيت الذي أثر في سيف الدولة قائلاً: إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم حينها عاد أبو فراس يائسًا يتهمه بالسرقة من بشار بن برد في البيت الذي يقول فيه: إذا رضيتم بأن نجفى وسركم قول الوشاة فلا شكوى ولا ضرر ولكن سيف الدولة قد عاد بعد بيت المتنبي الأخير وراح يقبل راسه في محل الجرح الذي اصابه فيه ليعلن بذلك انتصاره وانهاء الجدال. ويبقى الجدال الأدبي بين الأدباء صناعة للقيمة وكمال للمعنى وشفاء لكل زلل، فلا بد للأدباء من نهضات يجددون فيها الركود الذي يصيب اوساطهم، فهم القيمة الحقيقة للنفس الإنسانية، فمنهم تعرف الانفعالات والاحاسيس الصادقة، وبفضلهم تكتمل الصورة الموثقة البالغة.

مشاركة :