إن ذائقتي إبداع وتلقي الأجناس والأنواع الأدبية المختلفة ترزحان اليوم تحت وصاية كبيرة وسلطة نافذة من قبل عوامل التنشئة كالأسرة والمجتمع والمدرسة والجامعة ومناهج التعليم، والمكتبات والقراءة، والنقد الأدبي، والإعلام الرسمي، وما يلحق به من منصات حديثة غير رسمية كوسائل التواصل الاجتماعي. وتظل هذه الذائقة أسيرة صعود وهبوط مؤشرات السلطتين المؤثرتين في المشهد الأدبي والثقافي العام.وفي هذا ضرر كبير وتقييد للإبداع الذي يتطلب مساحة حرة للحركة خارج بؤرة سلطوية الشروط والمعايير والأحكام الماضوية الجاهزة، أو الأخرى الجديدة المرحلية التي تتغير من زمن لآخر.إن المعايير والأحكام تالية للإبداع وليس العكس، وارتهان الإبداع لسلطة الشروط والمعايير والأحكام الماضوية المعدة سلفا: يحد منه ويضيقه، ويقتل فيه عملية الخلق والابتكار؛ مما يجعله أسيرا لرؤى جاهزة سلفا وغير قابلة للتطوير.وبالتسليم بأن تكرار النموذج، دون تطويره، يقتل النموذج مهما بلغ من درجات الرقي والاكتمال؛ فإن هذا الارتهان للسلطة الماضوية لن ينتج إلا نماذج مكررة ومتشابهة من الأعمال الأدبية التي تصبح مثيرة للملل لدخولها في حكم النموذج (المكتمل) المسلم بجودته.إن إدخال العمل الأدبي في حكم الإنتاج المسلم بجودته ما دام موافقا للشروط والمعايير: حكم خطير؛ لأنه يسلب العمل جوهر الحكم على سماته الأصيلة بصفته مثيرا للتساؤل والبحث والاكتشاف، ومحققا لعنصر المفاجأة، وباعثا لدهشة التلقي في كل مرة تفتح فيها مغاليقه، فضلا عن أنه يدخل النماذج (البليدة) التي تفتقر إلى الإبداع إلى فضاء لا تستحق أن تكون فيه، ويصنفها بأنها الأفضل لمجرد مراعاتها لمعايير وشروط وأحكام ماضية وضعها بشر مثلنا عاشوا في زمن يختلف تماما عن زمننا هذا.وبالتالي، فلعل من المسلم به أيضا، أن استمرار حياة النماذج الأدبية الماضية، مهما بلغت جودتها وقيمتها الفنية، في نماذجنا الحالية دون تغيير أو تجديد أو أدنى مساس بمعاييرها: سيقتل الأدب حتما؛ لأنه يجعل من تلك النماذج مجرد صور مكررة تدور حول النسخة الأصل منذ آلاف السنين، وستستمر في الدوران حتى تفقد قيمتها الإبداعية ما لم تطلها يد التجديد.من جهة أخرى: فإن انفلات الأجناس والأنواع الأدبية المختلفة، التام وغير الموفق أحيانا، خارج إطار التصنيف والمعايير والشروط والأحكام قد أفرز، اليوم، منصة أدبية (خارج التغطية)، إن جاز القول.حيث يخضع العمل الأدبي لسلطة الشروط والمواصفات والمقاييس المتغيرة حتما من وقت لآخر؛ مما يجعله أشبه ما يكون بسلعة محكومة بسوق العرض والطلب. وقد باتت هذه المنصة تتصدر المشهد الأدبي الحالي بعشوائية منفلتة من القيود، بما فيها المطلب الفني، ورافضة للتصنيف في ظل دعاية كبرى من (بعض) النقد، ومن (بعض) قنوات الإعلام الرسمية وغير الرسمة المساندة.وذا أمر خطير أيضا؛ لأنه يسهم بشكل كبير في إيصال نماذج لنصوص يصعب القول إنها أدبية، فضلا عن كونها إبداعية. إن الرأي التقليدي الذي طال تكراره مما أفقده التأثير، ربما، والذي يقول إن (الإبداع يفرض نفسه في كل زمان ومكان) لم يعد قادرا، اليوم، على إنصاف الأعمال الأدبية الجيدة في ظل فوضى سوق العرض والطلب؛ فالكثير من الأعمال (غير الإبداعية) وغير المحققة لأدنى الشروط الفنية باتت تتصدر المشهد الأدبي، وهذا خطر آخر يهدد ذائقتي الإبداع والتلقي اليوم.إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في الإبداع الأدبي، وتحويله إلى صناعة يمكن المراهنة عليها، ولا يعني هذا (ميكنة) الأدب، بل إدخاله ضمن دائرة الاهتمام كغيره من الصناعات والمجالات الحديثة الأخرى. ومن ذلك ضرورة التفات جميع وسائل التنشئة إلى تبني عملية صناعة الإبداع وصناعة النجوم في الأدب والثقافة على نحو عام، بعيدا عن المجازفات بتكرار المكرر من نماذج فقدت تأثيرها، أو أخرى أثبتت مع الزمن عدم جدواها. وبعيدا أيضا عن الاستخفاف بدور الأدب كقوة مؤثرة.إن الالتفات إلى الأدب كصناعة: يعني رسم الخطط قريبة وبعيدة المدى، وإعادة النظر في دور الثقافة، والأدب كأحد مكوناتها المهمة القادرة على التأثير المجتمعي، وخدمة أهداف التنمية البشرية، وصناعة العقول كأخطر صناعة في حياة البشرية؛ فالعقول هي من ترسم الخطط وتحرك الآلة وتصنع التقنية. ومن ذلك أيضا العمل على صناعة النجوم في مجال الأدب والثقافة، ودعمهم إعلاميا كما يدعم غيرهم من النجوم في المجالات المختلفة، بالإضافة إلى ضرورة الدعم المادي للأدباء والمؤلفين وحقهم المشروع في ذلك؛ فما يقل ثمنه يزهد فيه من يجهل قيمته.إن السعي إلى صناعة الأدب سيحل كثيرا من الإشكاليات المتعلقة بدور عوامل التنشئة في تشكيل ذائقتي الإبداع والتلقي، كما أن هذه الصناعة سترتقي بقيمة الأدب، وتدفع إلى إعادة النظر في قدرته على الإسهام في تحقيق رؤية المملكة 2030.بالإضافة إلى أنها سترد على من يقول بأن الأدب مما يجب الاستغناء عنه في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة من عمر الازدهار والتنمية في وطننا؛ بحجة أنه، بمنتجه ومنتجيه، يمثل أحد عوامل تعطيل التنمية في مقابل الدور الكبير والعصري الذي تلعبه التكنولوجيا والعلم.@AshjanHendi
مشاركة :